بورما... أرض الظلال

ها هي ميانمار (أو بورما) تخرج شيئاً فشيئاً من شرنقة العزلة، لتجد نفسها بين مطرقة القمع والإصلاح، وسندان الظّلمة والنور.
بقلم: بروك لارمير/ عدسة: شيين شي شانغ



بالبنادق والدروع، تمشّط الشرطة منطقة صناعية خارج يانغون، وكانت الشرطة في وقت سابق فد فرّقت احتجاجاً عمالياً نادراً للمطالبة بتحسين الظروف ورفع الأجور، إلى ما يقارب 10 دولارات أميركية في الشهر، كما أن هناك شبكة سرية من المخبرين تراقب المواطنين البورميين.

إنها الساعة الأكثر سحراً وجاذبية في يانغون؛ حين تنشر شمس العشية أشعتها الناعمة والرطبة، على المباني المتداعية وسط المدينة وتحيلها وهجاً ذهبياً برّاقاً يُغري الناس بالنزول إلى الشوارع. وترى الأطفال يطلقون القهقهات ويتسابقون لشراء عصير قصب السكر الطازج؛ والنساء بخدودهن المطلية بمعجون من اللحاء (بمثابة واق شمسي بورمي بهي) يساومن بائع السمك على الأسعار. وفي الشارع، شكّل فتيان مراهقون، بصدورهم العارية، حلقة بشرية وهم يلعبون جولة صاخبة من لعبة شينلون الشعبية. فيما يجلس على الرصيف رجال متكرشون، يلبسون قمصان قصيرة ويغطي نصفهم السفلي مئزر، تقليدي يدعى لونغيي، يمضغون حشوات حمراء من جوز الكوثل.
لكن هذا الجو الشبيه بالكرنفال لا يدوم طويلاً، فالليل يسدل ستاره سريعاً في هذه البلاد الإستوائية، ثم إن انقطاع التيار الكهربائي المتكرر في ميانمار يضفي على هذه النقلة من النور إلى العتمة مسحة من التجهم والوجل، فترى الظلام يخيم على مبنى حكومي هرم يرجع إلى عهد الاستعمار، بينما ينبعث من الممر الذي يقطع البيوت نور أزرق خافت تصدره أجهزة تلفاز تشتغل بمولدات كهرباء محمولة. أما الباعة فقد غطاهم الظلام تحت الأشجار، فيما يتولى الشمع إلقاء الضوء على بضاعتهم، التي تتنوع ما بين حلقات من السمك الفضي، وعناقيد من زهور الموز الأرجوانية، ورُزم من أوراق الكوثل. وعلى حقيبة خشبية زرقاء، صُففت أقراص "دي في دي" مقرصَنة لأفلام وألبومات غنائية أميركية. 


الصورة في الهاتف النقال، إلى اليمين، هي لأونغ سان سوتشي، زعيمة حزب المعارضة، "الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية". وتحظى هذه المرأة بالتبجيل في ميانمار. لكن كل من يتجرأ على إظهار صورتها علناً فإنه يعرض نفسه للمقايضة من قبل السلطات. إلى اليسار صورة عارضة الأزياء والممثلة السويدية فيكتوريا سبلفيستيد، التي تمثل رمزاً من نوع آخر.

"مرحبا بك في فندق كاليفورنيا"، يصيح صوت صادر من العتمة بإنجليزية فصيحة؛ فيضحك من هذه التحية ثلاثة رجال يجلسون على كراس من البلاستيك في الشارع، ثم يظهر بائع الأقراص مبتسماً، وهو رجل نحيف يبلغ من العمر 29 عاماً، يضع نظارات دائرية، ويرتدي قميصاً وردياً. ورغم أن مشوراه التعليمي توقف في الصف الرابع، فإنه يتكلم الإنجليزية في شكل عبارات مقتطفة من أفلام هوليوود وكتب النحو التي تعود لخمسينيات القرن الماضي. وحسب قوله، فإن لقاء شخص أميركي، يجعله "في غاية الانشراح والبهجة".
كان الرفاق الثلاثة الذين يسمون أنفسهم، طوم وديك وهاري، يلتقون كل مساء تقريباً للتدرب على العبارات الإصطلاحية الانجليزية. والليلة، فإنهم مجتمعون حول كؤوس من شاي الكرك، يقضون ساعات في تبادل الدعابات والتباهي على بعضهم البعض بما تعلموه من عبارات جديدة. والآن في الظلام، يتردد الأصدقاء الثلاثة لهنيهة، حائرين في كلمات إحدى الأغاني القديمة لفرقة إيغلز الغنائية الأميركية الشهيرة. "لعلك تستطيع مساعدتنا"، يقول طوم، مضيفاً "ما المقصود بهذه الجملة: كلنا سجناء هنا في زنزانة من صنع أيدينا؟".


تمثال أجوف من الخرسانة نُصب عام 2003 في باغو، يمثل بوذا وهو مستلق في وضعيته المعهودة. ويعد هذا التمثال بمثابة ضريح في بلد تمل فيه البوذية تاريخاً يمتد لألفي سنة، وأتباعاً يمثلون 89 بالمئة من السكان. وفي الماضي كان الملك حامي حمى الدين، فيما بات الأخير اليوم يخضع لرقابة شديدة من الحكومة.

إن ميانمار بلد يلفه الظلام من كل جانب؛ وهي مكان حيث أكثر الأسئلة براءة قد تبدو مشحونة بالمقاصد الخفية. فقد ظلت هذه الدولة البوذية في معظمها، بعدد سكانها الذي يناهز الخمسين مليوناً، تحت حكم -وهوس اضطهاد- القادة العسكريين معظم فترات النصف الثاني من القرن العشرين. لقد كان الجيش الوطني، أو تاتماداو كما يسمى هنا، المؤسسة الوحيدة القادرة على فرض سلطتها على بلد وجد نفسه مشتتاً غداة الاستقلال عن بريطانيا. وقد نجح الجيش في فرض هيمنته، جزئياً، بفضل خندقة ميانمار في عزلة رهيبة، لم تبدأ في الخروج منها إلى حديثاً.
ولعل هذه العزلة، التي تفاقمت جراء عقدين من عقوبات الغرب الاقتصادية، قد حفظت تلك الصورة الحنينة لميانمار كدولة لا ينال منها الزمن؛ ببحيراتها الغارقة في الضباب، ومعابدها العتيقة، وتراثها الزاخر بمزيج من الثقافات والتقاليد التي بقي معظمها في منأى عن تأثيرات العالم المعاصر. غير أنها في المقابل ساهمت في التعجيل بانهيار ما كان يسمى ذات مرة "جوهرة آسيا". فقد استُنزفت موارد النظام الحصي والتعليمي في ميانما؛ في حين أن الجيش، بقوامه البالغ نحو 400 ألف جندي، يلتهم ربع الميزانية الوطنية تقريباً. والأسوا سمعة من هذا كله هو أن قمع تاتماداو العنيف للتمرد العرقي والمعارضة المدنية جعل من ميانمار بلداً منبوذاً، وهي سمعة يبدو أن البلاد عازمة على التخلص منها اليوم.


تشهد اللوحات الإعلانية على توغل ثقافة الاستهلاك في يانغون، عاصمة البلاد السابقة التي كانت تُعرف باسم رانغون. والمدينة هي مركز تجاري عامر، لكن آثار ماضيها ما زالت بادية على المباني الدينية؛ على غرار باغودا سول، التي بنيت قبل 2000 عام (وسط الخلفية)، وكذا الطراز المعماري الذي خلّفه المستعمر البريطاني.


ومن رحم هذا المشهد الحالك، وُلد بريق من النور. فقد بشّرت أول انتخابات برلمانية في البلاد بعد عشرين عاماً؛ نظمت في شهر نوفمبر الماضي، ببزوغ فجر يسميه قادة الجيش "ديمقراطية الانضباط المزدهر". ورغم ما شاب هذه الإنتخابات من تدليس وترهيب على نطاق واسع، فإنها أفرزت أول حكومة مدنية - لو من حيث الإسم - في ميانمار بعد نصف قرن من الزمان. كما تقاعد رسمياً في أبريل الماضي ثان شوي، القائد العسكري القوي الذي حكم البلاد طويلاً، وإن كان الرئيس الجديد ليس إلا نائبه المطيع الجنرال السابق ثين سين، الذي غيّر البزة العسكرية ببذلة مدنية.
وإذا كانت إحدى غايات النظام من وراء هذه الإنتخابات هي كسب الشرعية داخلياً وخارجياً، فإن الغاية الأخرى كانت السعي لمحو ذكريات انتخابات 1990، فخلال هذا الاقتراع، الذي أُجري عامين بعد أن عمد تاتماداو إلى إطلاق النار على مئات المحتجين ضد الحكومة؛ ألغى الجيش الفوز الساحق الذي أحرزه أبرز حزب معارض، وهو "الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية" (NLD). وهكذا تم الزج برموز المعارضة في السجون وظلت زعيمة الحزب، أونغ سان سوتشي، تحت الإعتقال؛ على مدى جل فترات العقدين التاليين.


يعبر هذا الراهب طريقاً مغبراً في باغان، العاصمة القديمة لميانمار وحاضنة مجمّع معابد شبيه بأنغكور وات في كمبوديا. وذات زمن، كانت هذه المنطقة تحوي 13 ألف باغودا (معبد) من القرن الثاني بعد الميلاد، بُني الكثير منها بالطوب المجصص والمصبوغ. وقد أتت الزلازل وفيضانات نهر إراوادي على أكثر من 10 آلاف منها.

وقد دفعت هذه الزعيمة، المعروفة باسم "السيدة"، الحزب إلى مقاطعة انتخابات نوفمبر الأخيرة، التي مُنعت من المشاركة فيها وهي بعدُ تحت الإعتقال. وحسب رأيها، فإن المشاركة في ممارسة "غير نزيهة" مثل هذه من شأنها أن تضفي الشرعية على نظام لجأ مرة أخرى عام 2007 إلى استخدام العنف القاتل؛ بإطلاق النار على المحُتجين من الرهبان البوذيين، كما تجاهل في العام التالي ضحايا إعصار نرجس. وقد قضى في تلك الكارثة زهاء 140 ألف شخص، وشُرد قرابة مليون آخر. لكن سوتشي لا تحظى باتفاق الجميع مع رؤيتها السياسية؛ فبعض رموز المعارضة رأوا في الانتقال إلى الحكم المدني، بغض النظر عن نواقصه، آخر فرصة لهم لإحداث التغيير في البلاد.
ولم يمض سوى أقل من أسبوع على اقتراع 2010، حيث أعلنت الأحزاب المدعومة من الجيش فوزها الساحق، ليرى البعض بصيص أمل جديد حينما أطلق سراح سوتشي. حينها كانت السيدة؛ الحائزة على جائزة نوبل للسلام عام 1991، في الـ 65 من عمرها، وكانت قضت تحت الاعتقال 15 من أصل الـ 21 عاماً الماضية. وقد سُرّ العالم بإطلاق سراحها، كما استبشر البعض بمشهد السيدة وهي محاطة بمناصريها من الشبان، فساد بينهم الاعتقاد أن فجراً جديداً بدأ يلوح في سماء البلد. لكن لا مجال لمثل هذه الأوهام في قاموس سوتشي، حيث أخبرتني عندما أجريت معها حواراً في فبراير الماضي أن "المجتمع شهد تغيّراً هائلاً" مُعبّرة عن اندهاشها من الانتشار الواسع للهاتف النقال، وموقعي تويتر وفيسبوك؛ قبل أن تضيف "لكن على المستوى السياسي، لا شيء تغير على الإطلاق".


تحمل أونغ سان سوتشي؛ زعيمة المعارضة والحائزة على جائزة نوبل، كلباً يدعى تايكيدو أهداها إياه ابنها الأصغر؛ فيما تتحدث إلى المستشار وين هتين في منزلها الكائن بيانغون. وقد أُفرج عنها مجدداً في نوفمبر الماضي بعد أن قضت 15 من 21 سنة الفائتة رهن الاعتقال. وقبل أشهر، أُفرج عن وين هتين بعد 20 عاماً من السجن. وفي 2005، نقل العسكر؛ الذي وصل هوس الارتياب لديه إلى ذروته، الحكومة من يانغون الساحلية إلى مكان أصعب على الغزو في وسط البلاد.

ويميل الناس إلى اختزال ميانمار في كونها مجرد حكاية عن الأخلاق، تلخص الصراع الأزلي بين الخير والشر. لكن السيدة والجنرالات لا يمثلون الأقطاب الوحيدة التي تتنازع مقاليد الحكم في البلاد؛ ففي صفوف كل من الجيش والمعارضة ثمة أصوات، مازالت مُخرّسة، تدفع باتجاه توسيع مساحة المرونة والإصلاحات. وبعيداً عن صراع النخب هذا، هناك الأقليات العرقية، التي تشكل مجتمعة حوالي ثلث السكان، وتتوزع على أكثر من نصف مساحة البلاد.
وما انفكت إشكالية السيطرة على هذا اللفيف من الجماعات الجامحة تُؤرّق حكام ميانمار منذ زمن الملوك القدامى، وأي تقدم حقيقي في المستقبل يجب أن يأخذ آراءهم على محمل الجد. ويقول أحد الدبلوماسيين الأجانب في هذا البلد، "إذا ما تركت الأقليات العرقية خارج المعادلة، فإن البلاد قد تنهار".


ولإضفاء الشرعية على العاصمة الباذخة الجديدة، ناي بيي تاو، فقد بنى المسؤولون نسخة من باغودا شويداغون المبجلة في يانغون.

لقد صار الرهان على مآل ميانمار في المستقبل مهماً أكثر من أي وقت مضى، ويُعزى ذلك جزئياً لأن هذه البلاد - المحشورة بين الصين والهند - صارت من جديد قطعة من القطع الجيوسياسية على رقعة شطرنج فوق طاولة القوى الخارجية. فرغم أن الولايات المتحدة، ومعها دول غربية أخرى، مستمرة في فرض عقوبات على هذا النظام بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، فإن الصين وتايلاند وقوى آسيوية أخرى متنافسة ما فتئت تضخ أموالاً ضخمة في ميانمار لاستغلال مواردها من النفط والغاز والخشب والحجارة الكريمة والمعادن والطاقة المائية. وهذه الاستثمارات الأجنبية، المقدرة بمليارات الدولارات سنوياً، جعلت تأثير العقوبات شبه منعدم، لكنها ألهبت نار التوترات فيي بعض المناطق العرقية الغنية بالموارد. وحتى الآن فلا شيء استطاع تليين قبضة الحكومة على السلطة، أو تخفيف ما يبثه الجيش من خوف وهوس بالارتياب. لكن ميانمار أخيراً أخذت تستفيق من سباتها...

يلف الساحر حافي القدمين حبلاً على عنق أحد المتطوعين من المتفرجين، الذي كتموا أنفسهم لترقب ما سيحدث. وهناك حشود من الأولاد والبنات، أفواههم مُشرّعة، يقفون في صفوف ممتدة حتى مدخل المبنى المتداعي. وعبر الشارع خارجاً، يجلس رجال في مقهى مفتوح على الهواء، بأعناقهم المشرئبة باتجاه مشاهدة العرض؛ فيمانمار بلد مفعم بالسحر: إنها مكان حيث تسكن الأرواح، المسماة ناتس، كل شجرة بانيان، وحيث لا يتخذ المرء قراراً حساماً إلا بعد الرجوع إلى المنجمين. والساحر يعرف، وإن كان الأطفال لا يعرفون، بأن بعض الرجال الواقفين في الخارج ليسوا من الجمهور المدعو لمشاهدة العرض، بل جواسيس يعملون لحساب "الشعبة الخاصة" في الشرطة.


في عام 2007، قاد الرهبان البوذيين احتجاجات ضد الحكومة سُميت بثورة الزعفران. في دير يستخدم شبان بوذيون الحمامات لغسل أجسادهم وملابسهم.

ومع ذلك فهذا العرض ليس كمثل العروض السحرية الأخرى، أذ تجلس في الصف الأول، السيدة أونغ سان سوتشي، وعلى رأسها تاج من الياسمين. إنه الاحتفال بيوم الطفل في مقر الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية في يانغون؛ وهو حدث أُريد له أن يصادف ميلاد والد سوتشي، بطل تحرير بورما؛ الجنرال أونغ سان، الذي اغتيل عام 1947، وقد عُلّقت صور الأب وابنته، المتشابهين كثيراً فيما عدا البزة العسكرية التي تميز الأب، على مدخل الرابطة، وفي الجدران الجانبية، وعلى دبابيس مصفحة تزين قمصان الأطفال الحاضرين.
لكن الأعين كلها في هذه اللحظة تحدق في الساحر الذي يلف الحبل ببطء حول ساقَي المتطوع وذراعيه وصدره، وحتى من خلال ملابسه. وتنتزع فتاة شابة نظرة خاطفة إلى سوتشي، التي ردت عليها بغمزة عين تطمئنها بأن الرجل ليس سجيناً حقيقاً؛ رغم أن كل واحد من زعماء الحزب الذين يجلسون حولها قضى أكثر من عقد في سجون العسكر.
يصيح الساحر على مساعده بصوت عال، وبجرة قوية، ينفك الحبل ويُطلق سراح السجين، وتعمّ عبارات الفرحة القاعة، فأطلقت سوتشي ضحكة عفوية عالية.


لدى ميانمار جيش نظامي، لكن ليس هذا. وقد أُنشئ جيش تحرير كاشين على يد إحدى الجماعات العرقية الـ 135 الموجودة في البلاد، والتي تعظّم كل واحدة هويتها الخاصة. وتعمل مثل هذه الجيوش على الحفاظ على استقلالية مواطنها الغنية بالموارد ضد تدخل النظام المركزي.

ليت الأمر كان بهذه السهولة؛ فحتى بعد استرجاع حريتها، يبدو أن سوتشي ما زالت مقيدة بحبال غير مرئية، فهذه الأيقونة العالمية لا تحمل على كاهلها انتظارات أنصارها الكبرى فحسب، بل إن حزبها مجمّد أيضاً؛ إذ بعد منعه عقب مقاطعته انتخابات 2010، صار يواجه تهديداً مستمراً بتهمة انتهاك القوانين المنظمة للتجمهر عند كل تجمع ينظمه. وحتى في يوم الطفل، يقول وين هتين، أحد المقربين من سوتشي، "فإننا نتحدى القيود".
ومن مكتب سوتشي في الطابق الثاني في مبنى يطل على شارع مكتظ قريباً من وسط يانغون؛ يمكنها مشاهدة أفراد من الشعبة الخاصة وهم جالسين في المقهى على مقربة من الشارع. تقول السيدة، متنهدة "لا افهم سبب تواجدهم هنا". ورغم إبدائها لشذرة من الحنين فحسب إلى عهدها بالخصوصية، تقول سوتشي "دائماً ما أتساءل متى أجد الوقت للقراءة والتفكير من جديد"؛ فقد زجّت بنفسها في دوامة من الاجتماعات مع الدبلوماسيين، والصحفيين، والجماعات العرقية، ومنظمات المجتمع المدني. لكن وحتى الآن، فإن أحوج من تحتاج إلى الاجتماع بهم - وهم الجنرالات - يتجاهلون جميع محاولات التقرب التي بادرت بها. وتوضح سوتشي "أبوابنا دائماً مفتوحة؛ وما من شيء يمكن تحقيقه من دون حوار".
وعلى مدى السنين، فإن الرسومات الكاريكاتورية التي ينشرها الإعلام الخاضع لسيطرة الحكومة ما انفكت تصور السيد الأنيقة على أنها غول شرير بأنياب ضخمة، يقتات من فتات الغرب. وقد توقفت هذه الهجمات لبضعة أشهر بعد إطلاق سراحها. لكن عندما أصدر حزبها في فبراير الماضي بياناً يدافع فيه عن العقوبات المفروضة عن النظام، صدر مقال افتتاحي في "نيو لايت أوف ميانمار"، وهي إحدى الصحف الرسمية، يحذر من أن سوتشي وحزبها "سيلقيا حتفهما المأساوي". ولعل هذا لا يعدو كونه تهديداً خطابياً، لكن معظم الناس ما زال يذكر جيداً الهجوم الذي استهدف موكبها آخر مرة كانت فيها حرة طليقة، عام 2003؛ حيث قُتل قرابة إثنا عشر شخصاً من أتباعها.


نساء من المدن والقرى يستعرضن الأزياء فوق منصة إحدى الحانات بماندلاي، حيث الرجال الحاضرون يهدون زهوراً للنساء اللائي تعجبهم. ويعتقد بعض المراقبين أن مثل هذه الأحداث هي جزء من دعارة علنية وغير قانونية باتت تنتشر في ميانمار.


وقد تكون العقوبات إحدى آخر الأوراق في يد سوتشي. وقد خلصت نخبة واسعة من المراقبين الدوليين - بمن فيهم وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون - إلى أن العقوبات المفروضة على ميانمار غير مجدية، ويعود ذلك بشكل كبير إلى أن دولاً أخرى، مثل الصين، لا تجد حرجاً في التعامل التجاري مع حكومة ميانمار. وتصرّ سوتشي قائلة "نحن مستعدون لحل توافقي". لكنها؛ بعد عقدين من التضحية، لا تريد أن تطلب تخفيف العقوبات إلا إذا كانت هناك تنازلات حقيقة، تبدأ بالإفراج عن أكثر من ألفي معتقل سياسي في البلد. وتسأل سوتشي بنبرة لا تخلو من المكر "إذا كانت العقوبات غير مجدية، فلم يبدو النظام وأصدقاؤه تواقين لرفعها؟". ويبدو أن عين الحكومة على شيء لم تملكه قط، وهو كل ما تملكه السيدة؛ إنها الشرعية في أعين العالم.
وإذا ماحدث وجئت إلى ناي بيي تاو للبحث عن أدلة حول زعامة ميانمار، فإن أول شيء ستجده هو الفراغ الرهيب: فهناك طرقات انسيابية من عشر حارات تتخللها طرق ملتوية متقنة لتحويل الاتجاه، لكنها تكاد تخلو من أي مركبة؛ ومجمعات سكنية حكومية متمايزة الألوان لا يبدو فيها أي أطفال - وهي عبارة عن نسخة طبق الأصل من باغودا شويداغون في يانغون، وهي خالية من أي راهب بوذي يتلي فيها الصلوات. وكل شيء هنا يوحي بأن المكان أشبه بموقع تصوير سينمائي مهجور. لكن هذا الإحساس سرعان ما ينتفي عندما تتجه بالسيارة نحو المنطقة العسكرية، وهي منطقة محظورة يتخذ فيها ثان شوي إقامته السكنية ومقراً للقيادة العليا السرية. وهناك، وراء صوت محركات الشاحنات العسكرية، وأرض الاستعراض الفسيحة، تنتصب رموز النظام في شكل تماثيل هائلة لملوك ميانمار الثلاثة القدامى الأكثر تبجيلاً في تاريخها.


في مستشفى خاص بعلاج مرضى الإيدز يقع خارج يانغون (أعلى اليسار) ترعى أم ابنها، المدعو كياو كياو وين (33 عاماً)، المصاب بالإيدز. وفي وقت لاحق توفي هذا الشاب. واليوم، هناك حوالي 240 ألف شخص في ميانمار يحملون هذا الداء، الذي انتقل إلى الكثير منهم عبر تعاطي المخدرات بالحقن غير المعقمة. ويموت منهم كل سنة قرابة 17 ألفاً. وتجعمل ميزانية صغير للأدوية المضادة للفيروسات، من الإيدز "مرضاً قاتلاً على نحو نسبي"، بحسب كريس بايير، عالم الأوبئة بمستشفى جون هوبكينز الأميركي. وتنفق ميانمار على تعزيز قواتها الدفاعية قرابة ضعفي ما تنفقه على الصحة والتعليم.


مرحباً بكم في "دار الملوك" (ناي بيي تاو)، التي صارت منذ 2005 عاصمة ميانمار. وهي مدينة من عالم اليوتوبيا الُمؤسّس على الخوف والغطرسة. وثان شوي، وهو ساعي بريد سابق عرف كيف يصقل مواهبه في شعبة الحرب النفسية بالجيش، فقد نصّب نفسه اليوم وريثاً لسلالة الملوك القدامى - إلى درجة قيل فيها إن على كل متضرع أن يستخدم صيغ المدح الملكية من اللغة البورمية لمخاطبته هو وزوجته. وكان ملوك ميانمار يميلون إلى تشييد عواصم جديدة لتبقى شاهدة على ملكهم، بدءا من الباغودا في باغان، إلى البلاط الملكي في ماندلاي. واليوم شُيّدت ناي بيي تاو لتشهد على مُلك جديد.
قد تبدو العاصمة الجديدة بلا روح، لكن بالنسبة للحكام الذين لا يثقون في شعبهم، فإنها يمكن أن تكون رائعة من روائع التخطيط الحضري الدفاعي. ولأن الجنرال ثان شوي كان يتوجس خيفة من هجمة داهمة على يانغون، فإنه ضخ مليارات الدولارات لبناء المدينة الجديدة على أرض ذات أشجار قصيرة وسط ميانمار، في مأمن من الأعاصير القاتلة، والغزو الأجنبي، والاحتجاجات الداخلية. وبالنظر إلى تصميمها، فإن ناي بيي تاو ليست مدينة في واقع الأمر، بل هي سلسلة من المناطق المعزولة المنتشرة على رقعة أصغر من إمارة دبي. وفيها تتناثر المباني الحكومية، التي كانت فيما مضى متكدسة كالعناقيد في يانغون المزدحمة، على مسافات متباعدة، لا يمكن بلوغها إلا عبر طرق شديدة الحراسة. والمنطقة العسكرية هي قلعة داخل قلعة، محظورة على الجميع، عدا كبار الضباط؛ ويُشاع أنها مزودة بملاجئ في جوف الأرض.
وفي هذه المدينة، التي شيدها عمال يكسبون أقل من دولار واحد في اليوم، فإن جنرالات الجيش يرفلون في بحبوحة عيش من البذخ والرفاهية، تجسدها مرافق متطورة؛ مثل ملعب كرة قدم بمقاييس أولمبية، وحديقة حيوانات مجهزة بغرفة مكيفة للبطاريق، ومنتزه سفاري، وكذا "حديقة معالم" بمساحة 194 هكتاراً، تضم نسخاً مصغرة لأشهر مواقع ميانمار، بما فيها البيوت الخشبية التي تسكنها، عند الاقتضاء، أقليات عرقية تعيش عيشة تقليدية، كما لو أنها في محمية بشرية.


بات انتشار المتسولين من مختلف الأعمار ظاهرة شائعة عند باغودا ماها ميات موني في ماندلاي


وقد أوجد هوس الجنرالات بأحد مخلفات الاستعمار البريطاني - وهو رياضة الغولف - خمسة ملاعب جديدة. وهكذا بات المزارعون الذي سُوّيت قريتهم بالأرض لبناء ملعب (سيتي غولف كورس)، يزيلون الأعشاب التي تعيق تدحرج الكرة؛ وذلك على أرض أجدادهم، مبتسمين بتأديب في وجه العسكريين كلما اقتربوا منهم. وفضلاً عن جاذبية معلب الغولف النخبوية، فإنه يوفر مكاناً آمناً يمكن فيه إبرام الصفقات التجارية في هدوء، حيث يُحكى أن الرشاوى تُمنح - تمويهاً - في شكل رهانات خاسرة. وقد تعلمت حاملة مضارب الغولف، ذات الـ 26 عاماً، قواعد كتمان كل ما يدور من أسرار في الملعب، حيث تقول، وقد زينت شفتيها بأحمر شفاه ناصع، "لا يفترض بي إلا التبسم".
ولا تملك العاصمة الجديدة إلا إرثاُ ديمقراطياُ يتيماً؛ وهو مجمّع برلماني مكون من 28 مبنى ضخماً، يعلوها باغودات ترتفع فوق جسرين معلقين وهميين. وعند افتتاح البرلمان في فبراير الماضي - الذي عقد أول جلسة منذ 22 عاماً- سيق أعضاء البرلمان الـ 659 إلى هذا العالم المصطنع المنغلق، وتم إبقاؤهم في عزلة لأسابيع. ولم يُسمح بدخول أي متابع أو صحفي؛ ومُنع البرلمانيون أنفسهم من استخدام الهاتف النقال أو البريد الإلكتروني، "كان الأمر محزناً ومضحكاً"، يقول أحد رجال الأعمال في ميانمار. "هنا كان جميع أولئك البرلمانيين يبشّرون بديقراطية جديدة، لكنهم وجدوا أنفسهم مجتمعين هناكَ مثل السجناء".
وبعيداً في أعماق تلال ميانمار الشمالية الشرقية، تمشى امرأة تضع على رأسها قبعة من قصب الخيزران بجانب ضفة النهر إلى مكان مقدس؛ إنه ملتقى النهرين الذي أوجد إراوادي، وهو شريان الحياة في البلاد. ويبجل البورميون من جميع الطوائف الدينية في ميانمار هذه البقعة المقدسة، غير أنها أكثر رسوخاً في هوية أقلية الكاشين العرقية، الذين استقر أسلافهم في هذه المنطقة منذ قرون مضت. وفي حفل زفاف هذه المرأة الكاشينية (التي طلبت عدم ذكر اسمها واسم زوجها) فقد تعهدت وعريسها بأن يتخذا من زواج نهر مالي ونماي قدوة لهما. ومازالت عائلتها تأتي إلى هذا المكان لتهب قرابين في الصباح الأول من كل عام جديد. وتقول المرأة عن المكان "إنه يجري فينا مجرى الدم في عرقنا".


امرأة ناجية من إعصار نرجس -الذي قتل ثلاثة أرباع سكان إقليم بينسالو الصغير سنة 2008- تعمل في تشييد مدرسة جديدة ستُستخدم أيضاً ملجأ من الأعاصير. وقد كان رد فعل الحكومة بطيئاً في مساعدة الناس على إعادة الإعمار.


لكن هذا كله سيختفي قريباً. فعند المنعطف التالي لإراوادي، يضع العمال الصينيون الأساسات لبناء سد للطاقة الكهرمائية بارتفاع 152 متراً، وهو السد الأول -والأكبر- ضمن سبعة سدود تعتزم الحكومة تشييدها. وفي إطار استثمار مشترك بين "شركة الصين لاستثمار الطاقة" (CPI) وشركة "آسيا العالمية"، الصديقة لحكومة ميانمار؛ يُتوقع أن يعمل سد مييتسون على توليد 6000 ميغاوات من الكهرباء، أي أكثر مما تتنجه البلاد كلها حالياً. وحين الإنتهاء من تشييد السد عام 2019، ستفيض مياهه على منطقة أكبر من مدينة نيويورك، لتجرف معها العشرات من القرى، بما فيها تانغ هبري، حيث تعيش المرأة الكاشينية. ومن على ضفة النهر تشير هذه المرأة إلى يافطة بيضاء على تل مجاور، ثم تقول "سترتفع المياه حتى ذلك الحد؛ هل تتخيل العيش تحت ذلك التهديد؟".
وتصل أصوات الاستياء من السد حتى أبعد من قرية تانغ هبري. "لقد أصبح السد بمثابة عامل موحّد لصفوف الكاشين الغاضبين"، يقول العميد غون ماو، من جيش تحرير كاشين (KIA)، وهو عبارة عن مجموعة متمردة ظلت في هدنة مع الحكومة طيلة الـ 17 سنة الماضية، قبل أن تبدأ خيوط هذه الهدنة بالتفكك منذ نهاية العام الماضي. وبمعية جهود من مجموعات عرقية أخرى، فإن جيش تحرير كاشين قاوم مطالب النظام بالتحول إلى قوة لحماية الحدود تحت قيادة جيش ميانمار. ثم إن مشروع السد لم يزد التوتر إلا اشتداداً. ويقول زعيم المتمردين، ذي الـ 49 عاماً، "لأشهر عديدة، ظللنا نطلب من السلطات البورمية أن توضح لنا الأماكن التي ستستفيد من الكهرباء. لكننا لم نتلق أي رد؛ وأظن أننا جميعاً نعرف حقيقة أن الصين متعطشة للطاقة الكهربائية". وفعلاً، فطبقاً لإحدى وثائق شركة الصين لاستثمار الطاقة، فإن حصة الأسد من الكهرباء المنتجة ستذهب مباشرة إلى الصين.
ومن بين كل الدول الأجنبية التي تلهث وراء استغلال موارد ميانمار، فإن الصين هي الأكثر لهفة وتصميماً. وهكذا فإن نصيباً من استثماراتها المباشرة التي تقرب من 10 مليارات دولار أميركي موجه لبناء خطوط أنابيب لنقل النفط والغاز من الساحل البورمي إلى الحدود الصينية؛ وهو مشروع سيقلص المسافة، ويخفف من تهديد القراصنة للسفن التي تعبر مضيق ملقا. وفي ولاية كاشين، التي تتاخم أرضها أكثر من 950 كيلومتراً من هذه الحدود، تتسابق الشركات الصينية لاستخراج الذهب واليشم، وخشب التيك، وكذا الطاقة الكهرمائية. وعلى حد تعبير أحد النشطاء الكاشينيين، فإن "الصينيين لن يتوقفوا إلى بعد استنزافنا".


في لاشيو، تشهد السيارة الصغيرة وصحن استقبال الأقمار الإصطناعية على أن هذه العائلة، التي نزحت من الصين أيام الثورة الثقافية، جزء من طبقة وسطى جد محدودة في ميانمار. ويقول الاقتصاديون بأن البلاد تعاني من "لعنة الموارد"؛ حيث يغتني الحكام من موارد البلاد ولا يتقاسمونها مع الشعب.


وطيلة العام ونصف الماضيين، ظلت حكومة ميانمار تطلب من سكان قرية هانغ هبري؛ البالغ عددهم 1400 شخص، الرحيل إلى مستوطنة جديدة أقيمت على بعد 16 كيلومتراً من أجل إخلاء المكان لبناء السد. وقد قرر جميع هؤلاء السكان تقريباً تحدي قرار الحكومة. وفي العام الماضي، وقعت سلسلة من الانفجارات في مواقع على امتداد أرض السد عبر الوادي، مرغمة مئات العمل الصينيين على إخلاء مواقع العمل وبالتالي تأخير المشروع. وقد أوقفت السلطات 70 من شباب الكاشين بتهمة ارتباطهم بالتفجيرات. وتصرّ المرأة ذات قبعة الخيزران على ان مقاومتها سلمية، إذ تقول "إن الحكومة تطل منا عدم ترميم بيوتنا، وأن ندعها تتصدع وتنهار. لكن هذا يجعلنا أكثر إصراراً على ترميمها وتزيينها، لنبيّن لهم أننا لن نرحل، ولو تحت تهديد الموت".
وفي الأسفل على ضفة إراوادي، تتوغل المرأة داخل حفرة عميقة من الرمل والصخر. ومهمتها اليوم ليست الصلاة أو الاحتجاج، لكن الانضمام إلى الباحثين عن الذهب. "ابحث هنا"، تقو المرأة لشاب كاشيني يافع يشق رمال الضفة بخرطوم مياه، بينما يدفع صبيان آخرون الرمل المنجرف نحو سطح منحدر. وعلى مدى الأشهر القليلة الماضية، لاحظ القرويون تزايداً في أعداد المراكب المليئة بالعمال الميانماريين والصينيين المتجهة نحو المنبع للتنقيب عن الذهب. وهي تتساءل عما إذا كان ترحيل سكان تانغ هبري القسري مجرد حيلة لترك الصينيين يسيطرون على مورد آخر من موارد الكاشين الثمينة. وتوضح، "نحن لا نريد أن نخسر موطننا. لكن علينا أن نحصل على أكبر قدر ممكن من الذهب قبل مجيء الصينيين وارتفاع منسوب المياه؛ وهذا ملك لنا".
ولوهلة من الزمن، أحس طوم الثرثار، بائع الأفلام المقرصنة، أن لسانه قد عجز عن التعبير. فقد كان برفقة صديقيه يدردشون في الظلام حول أمجاد يانغون: تنوعها العرقي، ومشهدها الذي يوحي بموجة الهيب هوب، وعمارتها الاستعمارية المتداعية؛ وفجأة تحول النقاش إلى حديث حول المستقبل.




قال طوم بعبارة إصطلاحية إنجليزية "أنا متوتر جداً"، وهذا لا يدخل ضمن تمرنه على استخدام مثل هذه العبارة؛ فانقطاعات الكهرباء الأخيرة كان لها وقع سلبي على الربح الزهيد -حوالي 50 دولاراً أميركياً في الشهر- الذي يُعيل به زوجته وابنته. كما أن العمل في السوق السوداء يزيد من توتره. فعلى الرغم مما يدفعه من مال لبعض رجال الشرطة لحمايته، فإنه كان قريباً جداً من الوقوع في قبضة دورية أمنية كانت تلاحق الباعة المتجولين، ولولا سيقانه الرشيقة، لانتهى به المطاف في السجن وفقدان كل سلعته من الأفلام، بما فيها قرص رائج كثيراً لأفلام الممثل الأميركي توم كروز، العزيز على قلبه، بحسب قوله.
وفي وقت لاحق، وبينما هو يمضع جوز الكوثل، صارحني طوم بطموحه الكبير: إنه يحلم بالهجرة إلى الخارج، وهو ليس وحده الذي يرواده هذا الحلم، ففي كل عام، يسافر عشرات الآلاف من العمال الميانماريين إلى سنغافورة وماليزيا، حيث يمكنهم كسب حتى 300 دولار أميركي في الشهر، ويقول ديك، وهو أستاذ لغة إنجليزية شبه عاطل عن العمل، إنه يفكر في البحث عن وظيفة في مجال المبيعات في سنغافورة؛ في حين تهيمن بلاد العم سام على مخيلة طوم، الذي يقول عنها، "إنها أرض الحليب والعسل، وأنجلينا جولي".
وحتى بإنجليزيته المفعمة بالحماس، فإن افتقاد طوم لتعليم عال ورصيد مالي كاف يقلصان من حظوظه للحصول على تأشيرة إلى الولايات المتحدة. غير أنه مهووس بالفكرة (أو لعله تأثير جوز الكوثل!) إلى درجة أنه لم يستطع السيطرة على مشاعره. يقول طوم "في ظل هذه الدكتاتورية، فإن لنا معيشة مثل الخنازير التي تشخر في الظلام".




وقد بدا صديقاه متوتران جداً بعد فورة المشاعر تلك. "سيجني على نفسه بلسانه هذا"، يقول ديك بصوت خافت عندما تركنا طوم للتعامل مع أحد الزبائن. "لا يجب عليه أن ينشر غسيله المتسخ أمام العلن"، يضيف ديك.
عندما يرخي الليل سدوله، يجمع طوم أقراصه، ويمضي هو ورفيقيه عبر الشارع الخالي إلى موقف الحافلة التي يستقلها طوم. "بدأت الأمور تتحسن هنا شيئاً فشيئاً"، يقول هاري، مضيفاً "فجميعنا يملك اليوم هاتفاً نقالاً وبريداً إلكترونياً، لذا يمكننا أن نبقى على اتصال مع العالم الخارجي". لكن طوم كان يبدو سارحاً في أحلامه، وبينما هو يركب الحافلة، ودّعنا بابتسامة شيطانية عريضة لا تخلو من تحريض، وهو يقول "أراكم بعد الإنتفاضة!".


المصدر/ مجلة ناشيونال جيوغرافيك العربية - عدد أغسطس 2011