مدافن حفيت - أبوظبي الإمارات العربية المتحدة

مئات القبو تبوح بأسرار 5 آلاف عام من الحضارة...

اعتقد سكان الإمارات القدامى بعودة الروح إلى اليحاة بعد الوفاة، فدفنوا موتاهم مع حليهم وأسلحتهم داخل مدافن بنيت خصيصاً لهذا الغرض، وأشرها تلك المتناثرة عند سفح جبل حفيت في مدينة العين التي ضمتها ليونسكو إلى قائمة التراث العالمي. علماء الآثار يحاولون اليوم فك ألغاز هذه المدافن وطقوس الدفن الغربية التي كانت ترافق جثث الأقدمين إلى مثواها الأخير.


كلما ذُكرت الإمارات العربية المتحدة إلا وتبادر إلى الأذهان ماتعرفه هذه الدولة من تطور ازدهار متسارعين في شتى المجالات؛ تشهد عليه عماراتها التي تناطح عنان السماء وطرقها السريعة المدهشة. ولكن لا يُعرف إلا نزر يسير عن تاريخها وعن كيف ساعدت عمليات التنقيبعن النفط – مفتاح مستقبلها – في جزيرة صغيرة قبالة أبوظبي عام 1959، في كشف أسرار تاريخ ظل طي الثرى منذ أزمنة غابرة.

مدافن حفيت
مدافن حفيت

فقد أدى التنقيب إلى اكتشاف مقابر تليدة مكنت من تحديد فترات مهمة منالعصر البرونزي في شبه الجزيرة العربية، ومعها قصة حب صمدت أمام اختبار الزمن. قبل حوالي 4500 عام، يُحكى أن زوجين كانا شديدي الهيام ببعضهما البعض لدرجة أنهما دفنا عند وفاتهما في عناق سرمدي، وظلاّ على ذلك الحال منذ تلك الفترة. فمن هما هذان الحبيبان، وكيف ماتا؟ لغز لم يفصح عنه الدهر بعد، ولكن عناقهما الحار كان كافياً ليحرك المشاعر، ليبقى خالداً في الأذهان ضمن أقدم قصص الحب في المنطقة العربية.

في ستينيات القرن العشرين، تزامنت الطفرة النفطية في الإمارات مع طفرة استكشافية أخرى للمواقع الأثرية القديمة، حيث عُثر على مئات المقابر التي تعود إلى فترات مختلفة من تاريخ البشرية. لكن من بين جميع هذه المقابر، استطاع قبر واحد فحسب أن يأسر فضول السكان الحاليين لهذا البلد ويترك انطباعاً مثيراً لديهم؛ حيث كان معزولاً وذا شكل بيضاوي، ينتمي إلى أواخر العصر البرونزي في النصف الثاني من الألفية الثانية قبل الميلاد.

"إنها عظام أقدم زوجين في دولة الإمارات"، تقول عائشة مبارك عبيد وهي تلقي نظرة على القالب الجديد الذي وشع فيه اقبر بعناية في قاعة خاصة داخل متحف دبي الوطني. وتتولى عائشة إدارة المتحف، وهي لا تخفي ولعها الشديد بهذين الحبيبين المتعانقين كلما مرت بالقرب من قبرهما. وتشيف عائشة "إنه قبر في غاية الرومانسية، وهو يشد أكبر عدد من الزوار، الذين لا يتوانون عن طرح الأسئلة حوله". 

واكُتشف القبر في منطقة القصيص، الواقعة في إمارة دبي. وقد وُجد على عمق 35 إلى 75 سنتيمتراً، وبه هيكلان عظميان لذكر وأنثى يرقدان على جنبيهما في وضع متقابل ومنحنٍ. وكانت أرجلهما وأيديهما متشابكة فيما يبدو أنه عناق أزلي. ومافتئت قصة حياة هذين الزوجين تثير تساؤلات حول طريقة دفنهما، إذ وُضعت الأنثى صوب الجهة الجنوبية باتجاه المستوطنات البشرية في ذلك الوقت، ما يدل على دورها العائلي؛ في حين كان الذكر يرقد في وشع يقابل البحر، الذي يمثل مصدراً لكسب القوت اليومي من خلال صيد الأسماك أو أنشطة الملاحة.

وتم الكشف عن قبر مماثل يعود إلى فترة أقدم من قبر الصيص بالقرب من مدينة مانوا الإيطالية. وكان هذا القبر أيضاً يحوي رجلاً وامرأة متعانقين منذ 5000 عام على نحو أوثق من حبيبّي القصيص، ما جعل الباحثين الإماراتيين يتساءلون عن الطابع "الكوني" للطريقة التي كان يُدفن بها الناس من قبل. "لقد كانت حياة ما بعد الموت أكثر أهمية من الحياة نفسها"، تقول عائشة.

وقد دُفن حبيبَا القصيص مع خنجر نحاسي كثير النقوش بالقرب من ساق الرجل، وخلخال نحاسي ضخم يزين قدم المرأة، فضلاً عن اصداف بحرية بها آثار الحكل. كما تم العثور بجانبهما على أنصال رماح وأواني من الفخار ربما كانت تستخدم في "حفظ الطعام"؛ وهي مواد قد تؤشر إلى أن الزوجين كانا من علية القوم وذوا مكانة اجتماعية مرموقة. تقول عائشة "دُنت مع المرأة ثلاثة أشياء: الحلي، ومنتجات من الفخار، وصدفات بحيرة بها كحل. وقد كانت هذه المواد من المستلزمات الأساسية التي ترافق كل امرأة في رحلتها إلى الحياة الثانية".

وواصلت عائشة نظراتها إلى القبر، وهي توضح المغزى من دفن الذكر مع سيفه، أو خنجره، أو أنصال رماحه؛ "يبدو أن الأدوار التقليدية لكل من الرجل والمرأة الإماراتيين لم تتغير كثيراً"، تقول عائشة وهي تبتسم.

((نقوش تعلو البوابة الجنوبية لمدفن هيلي تجسد شخصين يقفان بين زوج من المها العربي، ما يبرز أهمية هذا الحيوان كمصدر للغذاء في حياة سكان المنطقة القدامى.))

وتُعرض في المتحف مجموعة تضم أكثر من إثني عشرة صدفة بحيرة عُثر عليها في قبو الإمارات العربي، ويحمل كل منها آثار الحكل. ولعل هذا يفسر أن الاكتحال كان جزءاً لا يتجزأ من طقوس تزين المرأة الإماراتية منذ ما لا يقل عن 4500 عام. وقد دأبت عائشة، التي بلغت اليوم الـ 53 من العمر، على تزيين عيونها بالكحل منذ نعومة أظفارها؛ فقد كانت أمها تزينها وأخواتها بمسحوق الحكل الطبيعي، المعرف باسم "الأثمد"، الذي يتم صنعه بسحق وتمليس حجارة الأثمد السوداء. وتوضح عائشة أن "العثور على الكحل في هذا المكان هو برهان على أن الفراعنة القدامى لم يكونوا وحدهم من اعتمد على الكحل في تزيين العيون".

وقدر جىر التقليد ي ذلك الزمن أن يُدفن الأموات برفقة أشياء تينهم على اليحاة الأخرى، من قبيل الطعام والأسلحة؛ تماماً كما كان عليه الحالي لدى حضارات أخرى تزامنت، أو حتى سبقت، الحضارة الإماراتية. وتضيف عائشة "دُفن هذان الزوجان بعناية وتقدير" لذلك فأنا لا أعتقد أنهما تعرضا إلى القتل إلا أن يكون ضمن التضحية البشرية – أو القرابين". إلا أن الموقع الأصلي للقبر لم يعد بإمكانه إلقاء مزيد من الضوء على كحايتهما، حيث غزاه المد العمراني الهائل الذي عرفته إمارة دبي على مدى فترة طويلة من ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين.

وفيما تبقى حكايت هذه القبور مجهولة في معظمها، فإن بعض القبور الأخرى في دولة الإمارات مكنت من تحديد فترات مهمة من العصر البرونزي لمنطقة جنوبي شرق الجزيرة العربية، والذي استمر من عام 3200 حتى عم 1300 قبل الميلاد؛ وهي أطول فترة تشهد عليها هذه المنطقة.

وتعتبر مقابر حفيت أقدم مدافن العصر البرونزي في الإمارات، ومنها سُميت الفترة المعروفة باسم "فترة حفيت"، التي تمتد من عام 3200 إلى 2700 قبل الميلاد.

ويتناثر حوالي 500 من هذه القبور التي يعود عمرها إلى 5000 سنة، على شكل قباب أسف جبل حفيت في مدينة العين بإمارة أبوظبي. وينتصب هذا الجبل بإرتفاع يصل إلى أكثر من 1200 متر فيما يمتد على جانبي الحدود بين دولة الإماارت وسلطنة عمان. وبإعلان منظمة اليونسكو في يونيو من هذا العام مدينة العين كموقع تراثي عالمي، لتضاف إلى قائمة تضم مواقع شهيرة، حظيت مقابر العصر البرونزي هذه أخيراً على الصفة العالمية.

وتتجه مداخل معظم هذه المدافن صوب الجنوب، وهي سمة يُعتقد أنها كانت بغرض استقبال أشعة الشمس عن الشروق؛ إذ إن الشمس ربما كانت الزائر الويحد الذي يطل على هذه المقابر بانتظام على مر العصور. "لربما بنيت المقابر مع مراعاة اتجاه الشمس إذ كان يعبدها الناس هنا كإلهة؛ فقد كانو يأملون في النهل من بركاتها حتى بعد الموت من خلال إحداث ثقب في القبر لاستقبال نورها. ولكن من الصعب الجزم بذلك في غياب أي دليل"، يقول الدكتور حسن النابودة، رئيس قسم التاريخ في جامعة الإمارات، وهو مؤرخ يواظب على زيارة هذه المقابر ودراستها على أمل العثور على حلقة توصله بماضيه من خلال قبور أجداده.

وقد تم إنجاز عمليات الحفر والتنقيب على هذه المقابر قبل أكثر من 50 عاماً؛ وهي مبنية من الحجارة الخام المحلية، وعلى طول الجرف الشمالي والمندرات الشرقية لجبل حفيت. وتشتمل هذه المدافن المرتفعة عن سطح الأرض، وذات الحُجرة الواحدة، على جدران دائرية بها جزء ناتئ بقطر خارجي يتراوح بين 4 و 8 أمتار، فيما يمكن أن يصل قطر حجرة داخلية إلى مترين. وفي كثير من الحالات، أصبحت المداخل مختنقة جراء الحجارة المتهاوية، وحتى داخل تلك التي تم تشييدها من جديد فإن المدخل عبارة عن نفق صغير بارتفاع حوالي متر واحد وعرض 60 سنتيمتراً؛ وبالتالي فإن الزوار يضطرون لحشر أجسادهم على الجانبين لشق طريقهم إلى القلب الدائري من القبر.

ويقول النابودة "لقد عُثر داخل مقابر حفيت على قطع من الفخار من حضارة بلاد الرافدين، وبذلك فإن تأثير هذه الحضارة كان كبيراً هنا". وتنمي الشظايا التي عُثر عليها إلى نمط معروف باسم جمدت نصر، في إشارة إلى موقع بالقرب من بابل في العراق يشتهر بالفخار متعدد الألوان. وساعد هذا الاكتشاف أيضاً في إثبات الروابط التجارة بين بلاد الرافدين والإمارات العربية المتحدة خلال فترة تعود إلى عام 3000 قبل الميلاد.

وتشير بعض القطع البرونزية والأوعية المصنوعة من الحجر الصابوني التي تعود إلى فترة طويلة بعد ذلك التاريخ، إلى أن المقابر ربما أُعيد استخدامها في فترة لاحقة، خصوصاً خلال العصر الحديدي، ومن عام 1200 إلى 300 قبل الميلاد. كما عُثر على خرزات أنبوبية صغيرة خضراء مصنوعة من الخزف، وخرزات من العقيق الأحمر، والكوارتز، والحجارة. غير أن عمليات النهب التي تعرضت لها المقابر من قبل الغزاة على مر العصور لا تسمح بالحصول على أي ستنتاجات قاطعة حول هوية الأشخاص المدفونين في هذه المقابر؛ ولو أن الخبراء يعتقدون إلى حد كبير أن كل قبر من هذه القبور يعود إلى عائلة بأكملها، حيث دُفنت جثتان إلى 5 جثث جنباً إلى جنب. بالإضافة إلى ذلك، فإن بقايا الهياكل العظمية القليلة التي تم العثور عليها لم تكن في حالة جيدة تسمح ببلورة أي ستنتاجات تتعلق بأعمار أحصابها ونظامهم الغذائي وحالتهم الصحية قيد حياتهم. ويوضح النابودة "مازال هناك الكثير من الأمور التي نجهلها عن أجدادنا هنا؛ لكننا رويدا رويدا نحصل على أدلة عن ماضينا وعن كيف وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم".

كما اكُتشفت مقابر مماثلة في مناطق أخرى من دولة الإمارات؛ في خت برأس الخيمة، وكلباء على الساحل الشرقي، وقريباً من وادي القور، وكذلك في أجزاء أخرى من شبه الجزيرة العربية مثل سلطنة عُمان.

وقد جاء اكتشاف مقابر حفيت نتيجة حفريات قام بها في وقت سابق فريق بعثة استكشافية دانماركية عام 1959 في جزيرة أم النار الممتدة على مساحة كيلومترين مربعين، على بعد بضع مئات من الأمتار قبالة ساحل جزيرة أبوظبي. وقد كان بو مادسين، ذي الـ 19 ربيعاً حينذاك، عضواً في بعثة من أربعة أفراد، باشرت عمليات الحفر عام 1971 لتنتهي إلى اكتشاف 21 قبراً من قبور حفيت. "لقد كان استكشاف موقع جديد كلياً حدثاً رائعاً حقاً"، يقول مادسين، الذي صار اليوم محافظ قسم الآثار المشرقية في متحف مويسغارد في الدانمارك.

ويَذكر مادسين أن "الحاكم السابق لإمارة أبوظبي آنذاك، الشيخ شخبوط آل نهيان، كان قد علم بوجود هذا الموقع في جزيرة أم النار؛ وبتنسيق مع شرطة النفط المحلية، استقطب البعثة الاستكشافية الدانماركية، التي كانت تجري وقتها أعمال حفر وتنقيب في البحرين، من أجل التنقيب في الموقع عام 1956".

وقد تم تعريف القبور التي عثر عليها آنذاك كقبور "جماعية" يعتقد أنها كانت تستخدم من قبل الأسر أو ربما العشائر والقبائل. وهكذا عثر علماء الآثار في أم النار والهيلي في مدينة العين على مستوطنة بشرية – عبارة عن قبور، وأدلة على سكان مهرة في صهر النحاس – من المستوطنات التي كانت لها روابط تجارية متينة مع مناطق آسيوية أخرى من قبيل بلاد الرافدين ووادي السند. وقد تم الكشف عن نحو 50 قبراً مرتفعاً عن سطح الأرض، معظمها دائري الشكل ومبني من حجر مصقول، يبلغ قطرها من 6 لى 12 متراً وعلوها عدة أمتار. وهي مقسمة إلى حجرات يتم دخولها من خلال مداخل صغيرة على شكل شبه منحرف. وتم تشكيل الحجرات منجدار يشطر القبر إلى نصفين؛ ليتم تقسيم كل منهما بواسطة جدارين صغيرين متوازيين، في وضع متعامد مع الجدار الرئيسي. وقد صُممت كل جدرة لتأوي عشرات الجثث، وكانت تستخدم من جديد على مر العصور والأزمنة.

ومن بين أهم اللقى الأثرية التي عُثر عليها في أم النار، غرفة في المستوطنة يُعتقد أنها أقدم مكان للعباةد يُكشف في الإمارات العربية المتحدة حتى الآن. كما تم العثور بنفس الموقع على قطع من الحجارة تجسد أكالاً شبيهة بالأصنام إلى حد ما، منها واحدة نُحتت على شكل بشر.

ورغم أن الجزيرة صغيرة جداً فإن الخصائص المميزة لتاريخها العريق جعل من "ثقافة أم النار" عبارة معترف بها دولياً كمؤشر على الحضارة التي كانت سائدة في جميع أنحاء جنوبي شرق الجزيرة العربية لأكثر من 4000 سنة خلت. وقد استمرت أم النار، التي تمثل ذروة الحضارة في العصر البرونزي، من حوالي عام 2700 إلى 2000 قبل الميلاد، وبدا أن القوم الذين عاشوا إبّانها كانوا عمالاً في مناجم النحاس، وصيادين، ومزارعين، وتجار. "إن اسم أم النار يطلق على المنطقة نسبة إلى أثار الرماد التي عُثر عليها في الموقع؛ وهذا الرماد يقدم دليلاً أخر على صناعة النحاس التي برع فيها السكان هنا"، على حد قول الدكتور وليد التكريتي، وهو عام آثار يقوم – بصفتة مدير قسم الآثار في إدارة البيئة التاريخية بهيئة أبوظبي للثقافة والتراث – بدارسة قبور فترة أم النار منذ أكثر من 30 عاماً في مدينة العين، ونُشرت له أبحاث عديدة حول هذه الثقافة. وعُثر في الموقع كذلك على قطع من البوتقات الطينية المستخدمة في صب النحاس، والثقابات، وشفرات السكاكين، والرماح، وصنارات الصيد. وكان يتم تعدين النحاس في جبال الحجر ويُصدر إلى بلاد الرافدين مروراً بالعين ومن ثم عبر الموانئ.

"في ذلك الوقت، كان النحاس بضاعة رئيسية مثلما هو النفط اليوم"، يوضح التكريتي، وفي العصر القديم في أوروبا وإفريقيا وآسيا، كان النحاس يشكل أهم معدن على الإطلاق، حتى عام 1000 قبل الميلاد عندما أزاحه الحديد من على عرش المعادن. وقد كان النحاس يُمزح مع القصدير ليشكل سبائك أكثر قوة من النحاس، تُدعى البرونز، ومث ثم جاء اسم "العصر البرونزي"؛ ويُعزى ذلك إلى أهمية البرونز في العالم القديم. وكان الزنك يصدر إلى دولة الإمارات من خلال مواقع في جنوب أفغانستان وغرب باكستان. وبدءاً من منتصف ستينيات القرن الماضي، أصبحت دزيرة أم النار أو موقع يأوي مصفاة نفط في الإمارات، وهي تضم الوم موقعاً رئيسياً لتحلية المياه ومجمعاً لتوليد الطاقة.

وعُثر على مقابر جماعية مماثلة من فترة أم النار في منطقة الهيلي على الطرف الشمالي من مدينة العين، حيث تمكنت بعثة استكشافية دانماركية، وفريقين من كل من الإمارات وفرنسا، من اكتشاف أكثر من 12 مقبرة جماعيةفي منطقة الهيلي وحدها، واثنين آخرين شمالي الموقع. ولعل التفسير الأوضح لأحداث تلك الفترة يكمن في استقراء النصوص السومرية التي تعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد. وتخبرنا هذه النصوصو أن التجار، وهم في الطريق عبر "البحر السفلي" (الخليج العربي، سلكوا طريقاً يعبر بلاد دلمون (البحرين) وبلاد مجان، التي يعتقد أنها تشمل الإمارات وسلطنة عُمان. وبحسب هذه النصوص أيضاً فإن النحاس، والديوريت (حجر يستخدم لنحت التماثيل)، والتمر، والبصل؛ كلها بضائع تصدر من الخليج، وقد تم العثور عليها جميعاً خلال أعمال التنقيب في موقع الهيلي، باستثناء البصل. ويعتقد أن ثمن هذه البضائع كان يُدفع أساساً في شكل ملابس وصوف وبضاعة فاخرة.

ويبدو أن حضارة أم النار قد انطلقت من المناطق الداخلية من كل من الإمارات وسلطنة عُمان، ثم امتدت بعد ذلك إلى السواحل، لتتفاعل مع العالم الخارجي. وقد عُثر على مقابر مماثلة في الصفوح، وحتا، وتل أبرق، وكلباء، والبدية، والمويهات. يقول التكريتي "لقد تطورت المقابر كثيراً خلال فترة أم النار، حيث صُممت لتصمد إلى الأبد". كما أن القوش الحجرية على المدخلين الشماليين لواحد من أضخم قوب أم النار، ويسمى مدفن هيلي الكبير، قطره 12 متراً وارتفاعه لا يقل عن 4 أمتار، يوجد داخل حديقة آثار هيلي؛ يقدم نظرة نادرة على حياة السكان السابقين في المنطقة. وفوق بوابة القبر الجنوبية، بارتفاعها الذي لا يتجاوز 70 سنتيمتراً، تنتصب نقوش لشخصين يقفان بين زوج من حيوان المها العربي. ولعل هذا النحت (الذي يبلغ طوله حوالي متر واحد وعرضه يناهز 50 سنتيمتراً) يقدم مفاتيح لفهم الارتباط الوثيق بين الإنسان والطبيعة في ما مضى من الأزمان.

ونُحت المدخل الشمالي للقبر، على غرار الجنوبي، في قلب صخرة توتفع بثلاثة أمتار عن الأرض وتزن عدة أطنان. وفي الجزء السفلي من المدخل، هناك نحت لفهدين عربيين في وضع متقابل وهما يسحبان غزالاً ويفترسانه. وفي أعلى المدخل، ثمة منحوتات تكشف النقاب عن ممارسات بشرية لا تخلو من غرابة؛ إذ يمتطي شخص (على الأرجح امرأة) حماراً فيما يمشي شخص آخر بجانبهما وهو يحمل عصا في يده، وفي اليمين هناك شخصان متعانقان في وضع يوحي إما بالحب أو القتال. وتحوي مقابر أخرى منحوتات حيوانات مثل الإبل والثعابين. فقد عُثر على العديد من عظام الإبل أثناء التنقيب في مستوطنة أم النار؛ ما يطرح التساؤل حول تدجين هذه الحيوانات، وإن كانت الأدلة الأثرية في الوقت الحالي تشير إلى أن الإبل دُجنت في أواخر الألفية الثانية قبل الميلاد. ويوضح التكريتي "اكتُشفت عظام المها في أحد المستوطنات الأثرية في أم النار، ما يعطي أدلة على أهميته كمصدر للغذاء". أما في المستوطنات الأثرية المكتشفة في السواحل، فقد كان الأطوم – بقر البحر – يمثل جزءاً مهماً من النظام الغذائي للسكان، حيث كانت جلوده وزيوته تُستخدم إلى جانب لحومه. وكانت الحيوانات الأصلية مثل الفهد العربي والمها، التي تصورها القبور القديمة، على وشك الانقراض في العقود الأخيرة لولا برامج الاستنسال الممولة من طرف الحكومة الإماراتية، التي ساعدت على إحياء هذه الأجناس الحيوانية.

وعلى بعد بضع خطوات من مدفهن هيلي الكبير، ثمة أساسات برج شاهق من القرميد الطيني، كان له جدار دائري سميك تتخلله عدة غرف، وتتوسطه بئر. ويرى التكريتي أن "الناس كانو يولون أهمية كبيرة لحياة ما بعد الممات، ولذا كانو يشيدون قبوراً أبقى وأشد قوة من مساكنهم".

وبمحاذاة إحدى المقابر الدائرية يوجد قبر محفور في الأرض يطلق عليه اسم المدفن (N) ويحمل في جوفه رفات ما يصل إلى 800 شخص دفنوا على مدة فترة تمتد من 100 إلى 200 عام. كما وجدت في هذا القبر بقايل هياكل عظمية بشرية تعود لإناث وذكور وأطفال من كافة الأعمار. ويعتقد الباحثون أن معظم البالغين قد لقوا حتفهم على الأرجح حينما كانوا في العشرينيات أو الثلاثينات من أعمارهم، فيما توفي البعض عن سن أكبر بكثير. كما يضم القبر العديد من اللقى الأثرية مثل الأواني الفخارية، والأوعية الحجرية، والحلي؛ ويرجع تاريخها جميعاً إلى أواخر الألفية الثالثة قبل الميلاد.

ولعل أحد أغرب مقابر فترة أم النار حتى الآن هو الذي اكتُشف في منطقة الصفوح بإمارة دبي في تسعينيات القرن الماضي من قبل فريق من الأثريين الأستراليين بالتعاون مع بلدية دبي. فعلى مقربة من هذا القبر الدائري، وُجدت أربع حفر تحتوي على 50 عظماً بشرياً محترقاً. وهناك علامات على أن هذه العظام ربما أُحرقت وهي مازالت مكسوة باللحم؛ لكن ليس ثمة من سبب واشح وراء ذلك، كما لا يمكن الجزم بأن هذا الحرق يدخل ضمن طقوس كانت شائعة في المنطقة. وتوضح حوالي 13 ألف خرزة اكتشفت في هذا القبر، الذي يعود إلى أواخر الألفية الثالثة قبل الميلاد، كمية المجوهرات التي كانت تستخدم في تزيين الموتى من سكان المنطقة خلال العصر البرونزي؛ حيث كان العقيق الملون والعقيق الأحمر اللحمي، المجلوبان من واد السند، من المجوهرات الشائعة على نحو خاص.

وفضلاً عن الفخار الرقيق أحمر اللون الذي يرمز إلى فترة أم النار، فقد عُثر في المقابر الجماعية على أدوات شخصية للزينة. ومنذلك خواتم، وقلائد، ومجوهرت، ودبوس شعر من الذهب. ويمثل هذا الأخير القطعة الذهبية الوحيدة التي وُجدت عن تلك الفترة.

وتلا هاتات الحقبتان من العصر البرونزي (جبل حفي: 320002700 ق./. وأم النار: 2700-2000 ق.م.)، اكتشاف حقبة وادي سوق (200-1600 ق.م.). وتعتبر القرون الثلاثة الأخيرة من العصر البرونزي (1600-1300 ق.م.) إما استمرار لحقبة وادي سوق، أو حقبة مستقلة بذاتها تسمى العصر البرونزي المتأخر. وتغطي حضارة وادي سوق، التي أخذت اسمها من المواقع الموجودة في وادي سوق بين خليج عمان ومدينة العين، معظم الألفية الثانية قبل الميلاد. وإبّان هذه الفترة تم استبدال المقابر الدائرية لأم النار بقبور طويلة ضيقة ومدافن بيضاوية ومقابر على شكل حدوة الحصان. ومن أهم ممزيات هذه الفترة هو أن إنتاج النحاس أصبح منتشراً على نطاق واسع للغاية.

وقد تطورت هذه الحضارة أساساً من حضارة أم النار، ويبدو أن شعبها قد عاود الاستقرار في معظم مستوطنات أسلافه القديمة. ويوجد أول موقع دفن يعول لهذه الفترة يتم اكتشافه، في منطقة القطارة في مدينة العين. وتتوفر منطقة شمل الواقعة شرقي إمارة رأس الخيمة في دولة الإمارات على أبرز الأدلة المعروفة عن هذه الفترة، حيث أفضت عمليات الحفر والتنقيب إلى العثور على مستوطنة ومقابر عديدة تعود إلى ذات الفترة.

وسواء شُيدت مقابر العصر البرونزي في الإمارات العربية المتحدة في بادئ الأمر مع مراعاة لألهة الشمس، أو توسعت إلى حجرات متعددة لتلائم احتياجات القبائل السمتوطنة، أو أُعيد استخدامها خلال الفترات المتلاحقة كأماكن مقدسة للحياة الأبدية؛ فإن هذه المقابر تبقى أحد المفاتيح الأكثر إثارة لفتح بوابة التاريخ العريق لهذا البلد العربي وفهم ماضيه الضارب في عمق الحضارة الإنسانية.