رحلة عمر أبيركرومبي في بلاد الإسلام

قبل 60 سنة في مدينة ستيل ووتر بولاية مينيسوتا الأميركية، ذهب ولد في الخامسة عشر من عمره بصحبة أخيه الأكبر على البلدة لمشاهدة استعراض يدخل ضمن الاحتفال السنوي "أيام الخشّاب". وفي مكان الاحتفال راح الأخ الأكبر، وهو طيار في سلاح الجو اسمه بورس عاد للتوّ من  الحرب العالمية الثانية، يلتقط صوراً للمنصات السيارة بكاميرا فوتوغرافية من طراز "لايكا" كان قد اشتراها من إيطاليا.
وفي تلك الأثناء، كان الولد الصغير يتفرج لبعض الوقت إلى أن شعر بالملل فراح يبحث عن شيء أكثر تشويقاً. وخلال تجوّله بين الحضور، شد انتباهه صبي على الرصيف كان يحاول إثارة الفتيات اللواتي كنَّ على المنصات المتحركة باستخدام حركات وجهه المضحكة. ثم نادى أخاه قائلاً "مرحبا، بورس! هذا ما يجب أن تصور". وفي وقت لاحق استعار الكاميرا من أخيه بروس ورسم لها مخططاً على الورق، ثُمَّ صنع كاميرا من مرايا وعدسة مهملة وبقايا بلاستيكية؛ وأول صورة التقطها بآلته الجديدة كان لصديقته لين.
هكذا بدأ شغف توماس جاي أبيركرومبي بالعمل الصحفي، حيث أمضى سنوات طويلة يجوب قارات العالم كافة ضمن مسيرة مهنية حافلة بالإنجازات مع مجلة ناشيونال جيوغرافيك، تعلّم خلالها أربع لغات وخاطر بحياته مرات عدة، وكتب للمجلة 43 مقالة، قبل أن يتقاعد عام 1994. وتوفي الثالث من أبريل 2006 عن 75 عاماً.


توم في مهمة بالسعودية 1965

وعلى مدى 38 عاماً قضاها أبيركرومبي ضمن فريق المجلة ككاتب ومصور صحافي، كان يرسل التقارير من اليابان، كمبوديا، التيبت، فنزويلا، إسبانيا، أستراليا، ألاسكا والبرازيل؛ وكان أول مصور صحافي يصل إلى القطب الجنوبي. لكن تبقى أهم مساهماته الخالدة بالتأكيد هي 16 مقالة تتناول العالم الإسلامي كتبها بين عامي 1956 و 1994. وقد شكلت هذه الأخيرة بالنسبة لقراء المجلة الغربيين دليلاً لفهم الجغرافيا المتشابكة والزاخرة بالأمجاد لمنطقة لطالما عُرفت بأنها لاتخلو من غرابة وأسرار على الدوام.
انضم أبيركرومبي إلى الجمعية الجغرافية الوطنية عام 1956، بعد فترة قضاها في الجيش (حيث غادره بعد فترة قصيرة إثر عفن فطري أصابه في القدم جراء اشتغاله حارس إنقاذ)، وعمله كمصور لدى صحيفتين في الغرب الأوسط الأميركي، هما "فارغو فوروم" و "ميلووكي جورنال"، التي نال فيها جائزة أفضل مصور صحفي في السنة عن تغطيته للأخبار اليومية. إلا أن "التحفة الفنية" التي أسرت قلب ملفيل بيل جروسفينور، رئيس الجمعية آنذاك، كانت صورة التقطها أبيركرومبي لطائر أبو الحناء وهو يسحب دودة بمنقاره؛ إذ عبّر جروسفينور عن إعجابه قائلاً إنها صورة لا يمكن أن يلتقطها إلا أبو حناء آخر. ومع أن توم أخفق في اجتياز الفحص الطبي، بسبب العفن الفطري مرة أخرى، إلا أن مؤهلاته التحريرية شفعت له ومكنته من الالتحاق بمجلة ناشيونال جيوغرافيك.
لم يسبق لهذا المصور الصحافي أن سافر خارج الولايات المتحدة عند التحاقه بالمجلة، إلا أن أول مهمة صحفية قادته خارج البلاد كشفت أن رجلاً من مينيسوتا، قصير القامة، أجش الصوت، طيب الخلق، بإمكانه أن يتحدث إلى أي شخص. ففي لبنان، أجرى أبيركرومبي حواراً مع الرئيس كميل شمعون، واستطاع أن يُشعره بالانشراح التام، رغم ما عُرف عن شمعون من تحفظ وتصلب، حتى إنه دعاه لالتقاط صورة له مع زوجته وهما يسترخيان تحت شجرة.


توم يُعد العدة لشد الرحال إلى السعودية 1965

وفي مدينة لبنانية صغيرة، تدعى قب إلياس، زار أبيركرومبي المسجد لأول مرة في حياته؛ وهي زيارة تركت أثراً كبيراً في نفسه حيث كتب عنها في مقالته، قائلاً "بعد انتهاء الصلاة خالطت المصلين وانجرفت مع هذه الحشود البشرية إلى خارج المسجد، ثم سرنا في زقاق ضيق على قارعته صف طويل من المتسوّلين. وأنا أسير بين ظهرانيهم وأتجاذب أطراف الحديث معهم راودني إحساس جميل بالانتماء، فقد بدوا أنهم يقبلون بي كفرد منهم".
ظلت هذه اللحظة عالقة في ذهن أبيركرومبي، وطالما أحيا ذكراها في مواقف عدة طوال مسيرته المهنية، التي جعلته يقترب من الناس ويحظى بترحابهم في أكثر من 80 بلداً، وكثيراً ما كان يشبّه نفسه بجيش قوامه رجل واحد كما ارتحل في مهمة ميدانية؛ عدته وعتادة سيارة "لاند روفر"، تمت موائمتها لظروف العمل الخاصة، يربط إلى سقفها أوعية وقود معدنية، إضاة إلى 12 حقيبة أو أكثر من النوع المتين وجرار ماء وأكياس نوم وكتب وشريط لاصق وسلك متعدد الاستخدامات وخرائط طبوغرافية ووجبات طعام مغلّفة ولفافات من تبغ الغليون، فضلاً عن مسدس أو اثنين للاستخدام عند الضرورة؛ إلا أن سلاح أبيركرومبي السحري كان قيمه الإنسانية وشخصيته الودودة.
ويصف جيم ستانفيلد، مصوّر مجلة ناشيونال جيوغرافيك المتقاعد، زميله توم قائلاً "كان أبيركرومبي قوي البنية، إلا أنه كان لطيفاً للغاية مع الناس". ويضيف ستانفيلد، الذي جاب الصحراء الكبرى برفقة توم، ضمن قافلة من 400 جمل، "لقد كان مستعماً من الدرجة الرفيعة؛ إذ يمكنه أن يمضي ساعات مع أحدهم في المقهى، مستمتعاً بثرثرة حول هذا الموضوع أو ذلك وهو ينفث دخان غليونه. كان يمتلك عقلاُ نُيراً وفضولاً غير محدود، وكان صدره لا يضيق بطول الحديث مع الناس وبهذا كسب ثقتهم؛ حتى عندما يتعذّر عليه التحدث بلغتهم، دائماً ما كان يجد طريقة للتواصل معهم".


حفل زفاف توم ولين 1952

وفي شرق أفغانستان - على سبيل المثال - صادف أبيركرومبي مجموعة من الرجال يمارسون بوزكاشي، وهي رياضة تقليدية يمسك فيها الفرسان بعجول مذبوحة وهم على صهوات جيادهم ضمن منافسة شرسة ودموية. وقد وصف أبيركرومبي عام 1998 لأحد الصحافيين ما جرى في هذه المنافسة، قائلاً "تمكنت من كسب ودّ اللاعبين، الذين كانوا غير لطفاء في الواقع، بينما كنت ألتقط الصور فإذا بحصان يقضم أذن أحدهم". وأضاف أبيركرومبي، الذي كان يسب ويلعن حينها، "كانت بحوزتي حقيبة إسعافات أولية أحملها معي أينما ذهبت، مملوءة بالمورفين والمباضع الحادّة، فيما يشبه المستشفى؛ وهكذا تمكنت من إسعاف الفارس المصاب وجعلته يشعر بتحسّن طفيف".
لقد كانت إنجازات أبيركرومبي الطبية أشبه بالأساطير. فقد أجرى عملية بتر بواسطة سكين جيب لأصابع قدم مصابة بمرض الغرغرينا لأحد الحجاج في التيبت، وتطوع لإسعاف الناجين من زلزال ضرب إيران، فضلاً عن إنشائه وحدة طبية ميدانية بمفرده لإسعاف المصابين في حادث انقلاب شاحنة كانت مكتظة بالركاب وهي تسير بسرعة فائقة على طريق سريعة في نيجيريا.



صورة من أفغانستان بعدسة توم 1967


ومن جهة أخرى كان زملاء أبيركرومبي في المجلة، خصوصاً العاملين في قسم الحسابات، يصابون بالذهول أمام حجم المصاريف التي ينفقها في مهماته الصحافية. لكن هذا المصور كان ينظر إلى الأمور بفلسفة مغايرة؛ فقد أدرج بندقيتين من نوع كلاشنكوف (أيه. كيه. 47) ضمن قائمة مصاريفه في اليمن باعتبارهما "تأمين للسيارة"، وكان بين الفينة والأخرى يقدم الخرفان أو الماعز كهدايا للبدو الذين يستضيفونه. كما اشترى طائرة "سيسنا 185" ليحلّق بها في سماء ألاسكا. غير أن تدقيقاً مالياً مبكراً أُجري في مقر المجلة كشف أن أبيركرومبي، الذي يحمل الدماء الإسكتلندية (يشتهر الإسكتلنديون بالتقتير والشح)، كان مقلاً جداً في إنفاقه على الطعام والفندق، بمعدل يومي لم يتجاوز 17.52 دولاراً. لكنه كان يرى أن هذه الأسعار مرتفعة قليلاً، فقد كان هذا الرجل رغم كل ذلك، رشيداً في إنفاقه إذ كان يكتب مقالاته على ظهر مخطوطاته السابقة، وكان يستخدم قلم الرصاص حتى آخر سنتيمتر، وكانت ورشته المنزلية الصغيرة علامة أخرى على سياسة التوفير التي انتهجها توم في حياته، فقد كانت تعجُّ ببقايا الخشب، وتضيئها مصابيح يدوية الصنع تزينها مظلات صغيرة من أطباق الألمونيوم الُمدورة.


صورة من فيجي بعدسة توم 1973
كان توم محظوظاً بكونه سليل عائلة ذات باع في الهندسة المدنية، واستطاع بدوره أن يترك بصمته المميزة في مجال الميكانيكا. وحينما كان يعمل في ميلووكي جورنال، صمم وصنع لكاميرته الفوتوغرافية علبة مقاومة للماء باستخدام الزجاج الضفيري (Plexiglas) واستخدامها في تصور حطام سفينة في بحيرة ميتشيغان، لحساب الصحيفة. ويذكر بوب جيلكا، رئيسه في هذه الصحيفة (الذي اصبح في وقت لاحق مديراً للتصوير في مجلة ناشيونال جيوغرافيك)، كيف قاد توم برفقة زوجته لين سيارتهما إلى أقرب مكان من ضفة البحيرة "ثُمّ ربط طرف حبل طويل إلى مُخفف الصدمات بالسيارة، وربط الطرف الآخر حول خصرة، وغاص في الماء من أجل اختبار كاميرته المخصصة للاستخدام تحت الماء. واتفق الزوجان مسبقاً على أنه في حال حدوث مشكلة، فإن توم سيعطي إشارة من خلال سحب الحبل، تقوم بعدها لين بتشغيل السيارة لسحب توم إلى خارج البحيرة".
كان توم يحب الحياة الزوجية. وذات يوم كانت لين ترافقه في رحلة إلى الربع الخالي، فإذا بشيخ قبيلة محلية يطلب يدها منه، لتضاف إلى زوجاته الثلاث؛ فقد اعتقد هذا الشيخ أن لين، التي كانت على جانب كبير من الحسن بقامتها الطويلة وشعرها البني الفاتن، ابنة توم، فعرض عليه 30 ناقة من أجل الظفر بها، إلا أن توم طلب 50 ناقة، وبذلك استطاع الزوجان، اللذان عقدا قرانهما عام 1952، الاستمرار في رحلتيهما: الزوجية والصحراوية. وفيما بعد كتب توم عن ذلك، قائلاً "كنت بحاجة ماسة إلى لين؛ ثم ماذا عساني أن أصنع بخمسين ناقة؟".
كان الزوجان نادراً ما يسافران معاً خلال السنوات الأولى من عمل توم في مجلة ناشيونال جيوغرافيك؛ فقد كانت لين، رغم عملها كمصورة في المجلة ذاتها، منشغلة بتربية طفليهما ماري وبروس تحت سقف منزلهما المطل على الشاطئ في ماريلاند. وهكذا كان توم عادة ما يسافر بمفرده إلى أصقاع بعيدة جداً عن الديار ولشهور طويلة في كل مرة. لكنه كان يستثمر كل لحظة وحين من وقت فراغه في خط رسائل حنين وشوق مطولة إلى عائلته الصغيرة، والعزيزة على قلبه، كلما دأب على اقتناء شتى صنوف التحف الطريفة من الأسواق المحلية ليفاجئهم بها عند عودته.


صورة تركيبية لتوم من إنجازه الشخصي، يظهر في خلفيتها المسجد النبوي 1965.

وبحلول منتصف ستينيات القرن الماضي، كان توم يمضي وقتاً طويلاً جداً في الشرق الأوسط لدرجة تدل بالتأكيد على أن الرجل قد وجد ضالته في المنطقة. فقد أتقن اللغة العربية - إلى جانب  الألمانية والفرنسية والإسبانية - وتكمن من تلاوة القرآن الكريم واتخذ لنفسه من الأسماء "عمر" خلال ترحاله في المنطقة. لكنه لم يكن ملتزماً، على حد علم جميع معارفه، ولذا فإن قليلين فقط توقعوا خبر اعتناقه الإسلام في رسالة بعثها إلى رئيس التحرير، ملفيل جروسفينور، بتاريخ 17 أبريل 1965، يقول فيها "تحية طيبة وأشواق حارة أبعثها لكم من أكثر مدن الإسلام قداسة؛ لقد عدت للتو من الحج السنوي إلى مكة وجبل عرفات، بعد أن حظيت بشرف حصري لأشهد التجربة الإنسانية الأكثر إثارة للمشاعر في العالم، وأن أوثقها بالصور وأشارك فيها. إنها تجربة شخصية ستبقى موشومة في ذاكرتي، وهي من دون شك قمة وتتويج لتغطيتنا الصحفية للسعودية. مع أطيب التمنيات".
ظل اعتناق توم للإسلام وأداؤه شعائر الحج موضع خصوصية شديدة من طرفه، لكن صدق إيمانه وإخلاصه مسألة لا مراء فيها، وما من شك في أن هذا الإيمان كان الوشيجة التي ربطته شخصياً بالمسلمين، ومصدر إلهامه في مد جسور التفاهم بين العالم الإسلامي والغرب، من خلال مهنته. وذكر توم ذات يوم أن مخفرة إنجازاته المهنية تكمن في التحقيق المصور الذي أنجزه تحت عنوان "السيف والموعظة" (The Sword and the Sermon)، ونُشر في عدد يوليو 1972. ويعرض توم في هذا التحقيق تفاصيل رحلته الملحمية عبر تاريخ العالم الإسلامي وثقافته، حيث ذكر أنه حينما كان في كازاخستان قام بزيارة مسجد في العاصمة ألما أتا وأدى فيه صلاة الجمعة، ووصف التجربة في رسالة إلى عائلته بأنها إحدى أعظم التجارب الوجدانية في حياته؛ ضمن أسلوبه المعهود في إظهار الحقائق على نحو أقرب إلى الواقع.
ويروي توم عن ذلك اليوم، قائلاًً "رحت صوب إمام المسجد للتعرف إليه، وبينما كنا نتحدث باللغة العربية بدأت حشود المصلين المتعاظمة، بثيابهم البهية وسلوكهم السامي، تتجمع في أرجاء المسجد، وعندما رأوا صور الحد التي كانت بحوزتي كادت أعينهم تفيض من الدمع، وراح رهط كبير منهم يتمسح بثيابي بيديه ويمسح بهما على وجهه تيمناً ببركة الحج؛ لقد ترك ذلك الحدث أثراً عظيماً في نفسي".


توم في أفغانستان 1967

بعد مسيرة أبيركرومبي الحافلة بالتجارب والإنجازات، دقت ساعة الرحيل بتقاعده عن العمل من مجلة ناشيونال جيوغرافيك عام 1994؛ وحينها استعدّت العائلة، ولو بنوع من التوجس، لعودة الرجل للاستقرار في بيته أخيراً، وهو الذي ألف حياة الترحال. تقول لين "كانت سعادته لا تُضاهى وهو يجهز رحاله ويعد عدته للارتحال من أجل أداء المهام، فتراه منهمكاً في تحضير أمتعته وترتيبها ودراسة الخرائط وإعداد الخطط. ولهذا لم أكن أدري ماذا سيحدث بعد تقاعده. لكنه لم يأسف قط، فقد كان سعيداً بعودته بين أحضان عائلته، يصنع قواربه ويتناول وجبات الغداء برفقة أصدقائه، رغم أنه ظل هيّاماً محافظاً على عادة التجول، فتجده يغادر المنزل للتنزه ولا يعود إلا بعد ساعتين أو ثلاث، بعدما استغرق في الحديث مع أحد الجيران، أو مع شخص غريب عنه تماماً التقى به في الشارع. وعلى العموم تأقلم توم بسرعة مع الحياة العائلية من جديد".
لم تكن كتابة المذكرات الشخصية بالأمر الهين على توم، فقد كان عملاً انفرادياً تطلب منه توثيق حياة زاخرة بالحكايات الطويلة والشيقة - بعد إخضاعها لرقابة ذاتية - كان قد رواها لعقود على مائدة الطعام؛ ولو أن كتابتها لم تصادف في نفسه نفس الإثارة والمتعة التي يجدها حينما يرويها للناس شفوياً. وقد حظيت قصصه البطولية هذه بالفعل باهتمام ومتابعة جمهور جديد في كل من جامعة جورج واشنطن، التي درّس فيها "الجغرافيا وهي ترتدي حذاء الترحال"، على حد قوله، ومقر مجلة ناشيونال جيوغرافيك، حيث ظل على الدوام موضع ترحيب من قبل الرعيل التالي من الكتاب والمصورين. فقد كان توم مدرباً ومعلماً معطاءً لا يبخل علينا بتجاربه الغنية، وخلال رحلاتي إلى الشرق الأوسط جبت أماكن عدة في المنطقة، من جلال أباد إلى دمشق، مقتفياً أثره في الصحارى والأزقة الخلفية؛ وأينما حللت وارتحلت كنت أصادف أصدقاءً له وأناساً يعرفونه، كانوا يرحبون بي أيما ترحيب كما لو كنت ابن توم؛ كيف لا وأنا من "عشيرته".


صورة الحرم المكي، بعدسة أبيركرومبي 1965


أمضى هذا المصور والكاتب المتميز ما تبقى من شهور في حياته يرقب النجوم من خلال تليسكوب أهدته إياه زوجته لمناسبة رأس السنة الميلادية. وكان يمارس هوايته الأخيرة هذه بشغف وحماسة طفل يشاهد استعراضاً احتفالياً. وحتى في عز الشتاء القارس كان توم يعتمر قلنسوته ويأخذ تليسكوبه إلى حديقته الخلفية ك ليلة تقريباً لدراسة السماء بما تحويه من نجوم وكواكب، وقد ساعده تكوينه العلمي في إضفاء لمساته الفنية الخاصة على هذا الجهاز من خلال تدعيمه بقطع من تليسكوب آخر.وقُبيل لحظات من مغادرته هذا العالم إلى غير رجعة، كان توم منهمكاً في رصد الجداول البيانية للسماء وقراءة أي كتاب يقع بين يديه حول الكون والفلك. وبحكم معرفتي بهذا الرجل، فلا يسعني سوى القول إنه كان في تلك اللحظات يخطط لمهمة استكشافية جديدة؛ ستقود روحه هذه المرة إلى السموات، لكن بنفس الحزم الذي كان يغمره وهو يشد الرحال إلى مختلف أرجاء البسيطة.
بقلم: دون بيلت
.................




توم أبيركرومبي

1930 - 2006

بعد وقت قليل من بدء الجمعية الجغرافية الوطنية نشر مجلتها قبل قرن ونيّف، سأل أحدهم مؤسسها غراهام بيل عن الموضوعات التي ستغطيها دوريته الجديدة، فأجاب قائلاً "العالم بكل ما يحويه"، فيما يشكل تكليفاً بمهام واسعة النطاق تنطوي على التحدي والإغراء على حد سواء. وعلى مر السنوات التي قضيتها ي المجلة برفقة لين، بذل كل منا قصارى جهده لكسب هذا الرهان، فرُحنا نستكشف العالم بجميع قاراته ومحيطاته وبحاره؛ حيث كانت مجلة ناشيونال جيوغرافيك شاهداً حياً على قرن من الزمان، لعله الأبرز في تاريخ البشرية، كنا محظوظين بقضاء قرابة نصفه ضمن فريقها. قصتنا ترويها عدسات الكاميرا، وأبطالها مصورَين بُسطت أمامهما أروع الكنوز وأعظمها: إنها كوكب الأرض، ذلك الكوكب الذي طفنا أرجاءه كافة على متن بساط سحري بإطار أصفر.

"ثمة تحولات جمة شهدها العالم منذ تلك الأيام التي قضيناها بالعمل، بيد أنها لم تكن إيجابية دائماً، فقد غادرت الابتسامة وجوهاً كثيرة التقطتها عدساتنا أيامئذ؛ ابتسامة سرقتها السياحة، ومزقتها الحروب والثورات؛ فقد اكتوى لبنان بنيران النعرات الطائفية بعد أن كان سقفاً للتسامح بين ديانات مختلفة؛ وصارت دائرة الحريات في السعودية أضيق.
أما كمبوديا فما زالت تصارع للتخلص من كوابيس ماضٍ ما فتئ يقض مضجعها لعقود من الزمن؛ وأفغانستان تتجرع مرارة غزو أجنبي وتطرف داخلي ضارب في العصور الوسطى؛ وإيران في خلاف حاد مع الغرب، والعراق غارق في رماد حارق، وبذلك فإن عملي، بمعنى أو بآخر، يدوّن التاريخ بقدر ما يدوّن الجغرافيا. وكما يُقال، فإن "التاريخ متحرك، لكن الجغرافيا ثابتة". توم أبيركرومبي، مايو 2005.
صفحة من مذكرات توم تحكي عن التجولات التي عايشها برفقة زوجته خلال مساره المهني في ناشيونال جيوغرافيك على مدى 38 عاماً، قليلون فقط خبروا دروب العالم ومسالكه، أو أحبوا شخوصه، مثلما فعل توم.


المصدر: مجلة ناشيونال جيوغرافيك العربية - عدد أغسطس 2011