لغز مقبرة كليوباترا

سوار ذهبي مصري يعود إلى فترة تقرب من عصر كليوباترا، يتخذ شكل
أفعتين ملولبتين، يرمزان للحماية وتجديد النفس
تُرى أين هي كليوباترا؟ إنها في كل مكان بالتأكيد؛ فاسمها مخُلّد على آلات القِمار، وألعاب البورد (مثل رقعة الشطرنج)، ومعدات التجفيف والتنظيف، والراقصات الشرقيات، بل وحتى مشروع مراقبة التلوث في البحر المتوسط. وتجدها تدور حول الشمس على شكل كويكب تحت اسم كليوباترا 216. كما استُلهم عطر كليوبترا المميز من "طقوس استحمامها وتعطرها وكذا نمط حياتها المتفسخ".
 واليوم، فإن هذه المرأة التي حكمت مصر بصفتها آخر ملكة فرعونية، ويزعم البعض أنها جربت جرعات سامة على سجنائها، تقوم بدلا من ذلك بتسميم رعاياها الحاليين بسجائرها الأكثر شعبية في الشرق الأوسط. وبحَسب العبارة الخالدة للناقد الأدبي الأميركي هارولد بلوم، فإن كليوباترا تُعد "أول امرأة مشهورة في العالم". وإذا مثّلنا التاريخ فوق خشبة المسرح، فإنه مامن ممثلة قط كانت تضاهي كليوباترا في قدراتها المتعددة على لعب أدوار مختلفة؛ فهي تارة ابنة ملكية، وتارة أم ملكية، وتارة أخرى أخت ملكية. وعندما لاتُستخدم كليوباترا كمقياس لاختبار هوس الرجال بالنساء، فإنها تكون مصدر إلهام فني لاينضب. ويُضاف إلى سيرة حياة كليوباترا المنشورة حديثاً، بأرقام مبيعاتها الهائلة، عدة أعمال فنية تم إنتاجها بين عامي 1540 و 1905 وتشمل خمسة باليهات، و45 أوبرا، و77 مسرحية. كما ألهمت قصة الملكة كليوباترا سبعة أفلام سينمائية على الأقل؛ ويُنتظر أن تجسد الممثلة الأميركية أنجلينا جولي دورها في أحد الأفلام المقبلة.
تم اكتشاف هذه الأجزاء من التماثيل؛ التي تُظهر رأس امرأة رومانية وجسد أحد أسلاف كليوباترا، بعد ما ينيف عن 20 عاماً من التنقيب قبالة سواحل الإسكندرية، عاصمة كليوباترا. وكان جزء كبير من المدينة والمنطقة المحيطة بها قد غرق نتيجة قرون من الزلازل، وموجات المد البحري، وارتفاع مستوى مياه البحر.
لكن, رغم أن كليوباترا في كل مكان، فإنها أيضاً غائبة عن كل مكان، حيث حُجبت قصتها الحقيقية جراء "عتمة القصص الخيالية والانتقادات التي أحاطت بشخصيتها منذ عصرها وحتى يومنا هذا"، على حد قول كاتب السّير مايكل غرانت. ورغم ما اشتهرت به من قدرات غلى الغواية والإغراء، فإنه ليس ثمة من وصف دقيق لوجهها يمكن الوثوق به؛ فما هو موجود من صور لكليوباترا يعتمد بالأساس على صور ظليّة رديئة مطبوعة على العملات المعدنية. كما أن هناك نحتاً لكليوباترا غير واضح المعالم بطول 6 أمتار على أحد المعابد في دندرة، فضلاً عن وجود متاحف تعرض بضعة تماثيل نصفية لها من الرخام، قد لايعود معظمها لكليوباترا.
ولم ينشغل المؤرخون القدامى بوصف مفاتن كليوباترا، وإنما امتدحوا شخصيتها الكاريزمية وجاذبيتها الساحرة. فمن الأكيد أنها امتلكت سلطان غواية أشعل نيران الشغف والهيام في قلبي رجلين رومانيين ذوا قوة ونفوذ؛ هما يوليوس قيصر، الذي أنجبت منه ولداً واحداً، ومارك أنطونيو، الذي كان عشيقها لأكثر من عقد من الزمن وأباً لثلاثة من أطفالها. بيد أن حُسنها، يقول المؤرخ اليوناي بلوتارخ، لم يكن "من الصنف الذي يمكنه أن يفتن كل من يراها؛ لكن التواصل معها كان يأسر الألباب، كما أن مظهرها، إلى جانب قدرتها على الإقناع وشخصيتها عند كل نقاش أو حديث، كان يدغدغ ويقوظ الإثارة. كما كانت نبرات صوتها تغدق على المسامع المتعة، بعذوبة لسانها الأشبه بآلة موسيقية متعددة الأوتار".
لطالما احتار الناس بشأن الغموض الذي يكتنف موقع دفن كليوباترا منذ أن شُوهدت آخر مرة في ضريحا خلال مشهد احتضارها الأسطوري، كما وصفه المؤرخون القدامى، حيث كانت مزينة بإكليل مرصع وحُللٍ وحلي ملكية نفيسة، وهي ترقد في سكينة على أريكة من ذهب، على حد وصف بلوتارخ. فبعد اغتيال قيصر، دخل وريث عرش أوكتافيان في صراع مع أنطونيو من أجل السيطرة على الإمبراطورية الرومانية لمدة فاقت العقد. وعقب انهزام أنطونيو وكليوباترا في معركة أكتيوم، دخلت قوات أكتافيان الإسكندرية في صيف عام 30 قبل الميلاد. وأغلقت كليوباترا على نفسها أبواب ضريحها الهائلة، وسط أكوام ضخمة من الذهب، والفضة، واللؤلؤ، والمنتجات الفنية، وغيرها من الكنوز التي قطعت على نفسها وعدا بحرقها لئلا تقع في أيدي الرومان.

هذه الرأس الرخامية المتوجة بعصابة شعر ملكية قد تمثل كليوباترا،
وربما تم نحتها عندما كانت في روما. وتطابق بعض ملامح هذا التمثال،
مثل الأنف المنعطف، صور كليوباترا الرسمية على قطع نقدية تعود لعهدها.
ويذكرالمؤلفون القدامي أنها أسرت الناس بذكائها، وسرعة بديهتها، وجاذبيتها.
وقد أوقعت في شراك حبها اثنين من أقوى الرجال في العالم؛ يوليوس قيصر
والجنرال الروماني مارك انطونيو.
وإلى نفس الضريح، في الأول من أغسطس من العام نفسه، تم نقل أنطونيو، الذي كان يحتضر مثخناً بجراح سيفه، لعله ينعم باحتساء آخر رشفة من الخمر ويسلم الروح في أحضان كليوباترا. ولعله خلف أسوار هذا الضريح أيضاً، بعد عشرة أيام أو نحو ذلك من وفاة أنطونيو، فرت كليوباترا هي الأخرى من ذل الهزيمة والأسر عبر إقدامها على الانتحار في سن الـ 39 بتجرع سم الكوبرا المصرية، حسب مايعتقده المؤرخون. وقد أفاد المؤرخ الروماني ديو كاسيوس أن جثة كليوباترا جرى تحنيطها مثلما حُنطت جثة أنطونيو قبلها؛ وذكر بلوتارخ أن آخر ملكات مصر دُفنت بجانب قرينها الروماني المهزوم، بأوامر من أوكتافيان. وبعد ستة عشر قرناً، كتب شكسبير قائلاً "لن يوجد قبر على الأرض يطوق قبرهما؛ زوجان رائعان".
غير أننا لا نملك أدنى فكرة عن مكان تواجد هذا القبر. وفي مقابل القدر الوافر من الاهتمام الذي لقيته كليوباترا من لدن الفنانين، فإن هناك شحاً في المعلومات المكتشفة عنها من قبل علماء الآثار؛ إذ إن الاسكندرية وضواحيها لم تحز سوى اهتماماً أقل من باقي المواقع الآثرية الأكثر قدماً على طول نهر النيل، مثل الأهرام في الجيزة أو المآثر القديمة في الأقصر. وليس ذلك من قبيل الغرابة؛ فالزلازل، والأمواج العاتية، وارتفاع مستوى مياه البحر، وانخفاض سطح الأرض، والحروب، واستخدام أحجار المباني القديمة في أعمال التشييد؛ كلها ساهمت في تدمير القسم العريق من المدينة حيث عاشت الملكة كليوباترا وأسلافها على مدى ثلاثة قرون. أما اليوم، فإن معظم المجد الذي نعمت به الإسكندرية القديمة يقبع على عمق حوالي 6 أمتار تحت الماء.
فك لغز كليوباترا المحير على محمل الجد، وهم الآن عاقدون العزم على اكتشاف مكان دفنها. وانطلقت أعمال التنقيب تحت البحر عام 1992 على يد المستكشف الفرنسي فرانك غوديو برفقة فريق من المعهد الأوروبي للآثار البحرية، والذي يتولى رئاسته. وقد أتاحت أعمال التنقيب هذه للباحثين رسم خريطة للأجزاء الغارقة من الإسكندرية القديمة، بما في ذلك أعمدتها وممراتها وبقايا قصورها الملكية. وتفتح الاكتشافات المستخرجة من تحت البحر، والكسوة بالبرنقيل - ومنها تماثيل أبو الهول الحجرية الضخمة، ولبنات التليط الكلسية العملاقة، وكذا الأعمدة وتيجانها الغرنيتية - شهية العلماء للتعمق أكثر فأكثر في فهم عالم كليوباترا.
يقول غوديو "حلمي هو العثور على تمثال لكليوباترا؛ بخرطوشة تحمل اسمها". غير أنه لم تفلح أعمال التنقيب تحت الماء حتى الآن في الكشف عن أي قبر، وكل ما عثر عليه الغواصون من أثر لكليوباترا هي علب سجائر فارغة تحمل اسمها، كانت تتقاذفها المياه أثناء عملهم.
ومؤخراً، أصبح معبد صحراوي خارج الإسكندرية يشكل موضع بحث آخر من لدن العلماء؛ بحث بشأن ما إذا كانت ملكة بمثل بعد نظر كليوباترا وحسن تقديرها للأمور قدد أمرت بتشييد ضريح لها في مكان ذي أهمية روحانية أكثر من كل الأماكن في وسط مدينة الإسكندرية؛ موقع من البقاع المقدسة حيث يمكن لرفاتها المحنط أن يرقد في سلام بجانب حبيبها أنطونيو.
هذه كليوباترا على الجانب الأيسر من جدار في معبد دندرة - في واحد من الصور القليلة التي تحمل اسمها. وتظهر كليوباترا في الصورة وهي تؤدي دورها كفرعون من خلال تقديم العطايا للآلهة. وظهور ابنها قيصريون من يوليوس قيصير، يعد هنا دعاية تهدف إلى تعزيز موقفه كوريث لها. وقد ألقي عليه القبض وتم إعدامه بعد وقت قصير من وفاتها.
وفي نوفمبر 2006، أخرج زاهي حواس، الذي كان آنذاك أمين عام المجلس الأعلى للآثار المصرية، من درج مكتبه بالقاهرة ورقة كان رسم عليها مخططاً لأهم معالم أحد المواقع الأثرية، حيث كان ينقب بمعية فريق من العلماء والمنقبين على مدى السنة السابقة. "إننا نبحث عن ضريح كليوباترا"، يقول حواس بحماس وشغف، مضيفاً أنه "لا أحد سبق له أن قام بالبحث عن آخر ملكات مصر على نحو منهجي". غير أن هذا البحث المنهجي نفسه كان بدأ فعلاً عندما اتصلت امرأة من جمهورية الدومينيكان، تدعى كاثلين مارتينيز، بزاهي حواس عام 2004 ثم جاءت لتخبره عن نظرية كانت توصلت إليها. ومؤدى هذه النظرية أن كليوباترا قد تكون مدفونة في معبد متداع للسقوط قرب مدينة "تابوزيريس ماجنا" الساحلية الصحراوية (أبو صير حالياً)، على بعد 45 كليومتراً غربي الإسكندرية.
وقد شكلت مدينة تابوزيريس ماجنا القديمة، الواقعة بين البحر المتوسط وبحيرة مريوط، مدينة - ميناء مهمة إبان عهد كليوباترا. كما اشتهرت مزارع كرومها بخمورها المميزة. وقد ذكر الجغرافي سبرابو، الذي زار مصر عام 25 قبل الميلاد، أن تابوزيريس كانت تنظم مهرجاناً عظيماً، على الأرجح تكريماً للإله أوزيريس. وفي الجوار، كان هناك شاطئ صخري، "حيث تجتمع حشود من الناس في ريعان العمر للاحتفال في كل موسم من السنة"، حسب تعبير سترابو.
ويقول حواس "كنت أعتقد قبل بدئنا بالحفر أن كليوباترا ربما كانت قد دُفنت قبالة قصرها في الإسكندرية، بمنطقة المقابر الملكية". إلا أن منطق مارتينيز أقنعه في النهاية بأن نظرية آخرى بما تستحق الاستكشاف؛ وهي أن كليوباترا كانت حاذقة بما يكفي لتتأكد من أنها وأنطونيو سيدفنان بشكل سري في مكان خفي حيث لا يمكن لبشر إقلاق راحتهما الأبدية معاً.
وكانت كاثلين مارتينيز، الشابة العبقرية التي حصلت على بكالوريوس في القانون في سن الـ 19، تُدرّس علم الآثار في جامعة سانتو دومينغو، لكن هذا العلم بالنسبة إليها لم يكن سوى هواية؛ فلم سيق لها أن زارت مصر أو أمسكت مجرفاً قط. وتعزو مارتينيز هوسها بكليوباترا إلى جدال كان دار بينها وبين والدها عام 1990، عندما كان عمرها 24 سنة. فقد دخلت مكتبته ذات يوم تبحث عن نسخة من مسرحية "أنطونيو وكليوباترا"، لشكسبير. لكن والدها، فاوستو مارتينيز، البروفيسور والباحث في القانون الذي عادةُ ما يتسم بالتآني في إصدار أحمامه، حط من قدر الملكة الشهيرة واصفاً إياها بالمومس. فردت كاثلين محتجةُ "كيف لك أن تقول ذلك!". وبعد جدال دام ساعات طوال زعمت خلالها كاثلين أن الدعاية الرومانية وقرون من الانحياز ضد النساء قد شوهت شخصية كليوباترا، أقر البروفيسور مارتينيز بأن الرأي الذي كونه عن كليوباترا ربما لم يكن منصفاً.
لوحة على أرضية فسيفساء ضخمة في باليسترينا بإيطاليا تبعث الحياة في نهر النيل العظيم إبّان عهد كليوباترا. وينطلق النهر من إثيوبيا في الأعلى، بمحاذاة المعابد الفروعنية اليونانية-المصرية، ويتعرج عبر الدلتا، ثم ينتهي فيما قد يكون ميناء الإسكندرية النشيط في أسفل اليمين.
ومنذ ذلك الحين، قررت مارتينيز الإلمام بكل مايتعلق بالملكة الفرعونية، فانكبت على دراسة النصوص التاريخية المرجعية بإمعان، لاسيما رواية بلوتارخ حول قصة تحالف مارك أنطونيو مع كليوباترا. وبدا واضحاً من خلال هذه المراجع المختلفة أن الرومان كانو مصممين على وصف كليوباترا (في أسوأ الأحوال) بالحاكمة المستبدة المنغمسة في حياة البذخ وحب الشهوات والملذات و(في أفضل الأحوال) بالسياسية الماكرة التي عملت على إشعال الفتنة بي الطوائف المتصارعة داخل الإمبراطورية الرومانية الناشئة في محاولة يائسة للحفاظ على استقلال مصر. ومن المحتمل كذلك أن الباحثين المعاصرين قد فاتتهم أدلة مهمة حول مكان دفن كليوباترا.
وتقول مارتينيز "لايمكن أن تجد أي إشارة في أي مخطوط قديم تشير إلى المكان الذي دُفنت فيه كليوباترا، لكنني أعتقد أن كليوباترا خططت لكل شيء مسبقاً، بدءاً بأسلوب حياتها، مروراً بطريقة وفاتها، ووصولاً إلى الكيفية التي أرادت أن يُكشف بها قبرها".
وفي عام 2004، راسلت مارتينيزحواس عبر البريد الإلكتروني؛ بيد أنها لم تتلق أي رد. ولأن مارتينيز لم تستطع تهريب نفسها إلى مكتب حواس داخل كيس - باستخدام الحيلة الشهيرة نفسها التي يُعتقد أن كليوباترا ذات الـ 21 عاماً لجأت إليها للقاء يوليوس قيصر عام 48 قبل الميلاد - فقد أمطرته بسيل من الرسائل الإلكترونية التي فاقت المئة حسب تقديرها. ومرة أخرى لم تحظ رسائلها بأي رد؛ فما كان منها إلا أن توجهت إلى القاهرة حيث تمكنت أخيراً من لقاء حواس شخصياً من خلال مرشد سياحي كان يعمل سابقاً لدى المجلس الأعلى للآثار.
وعندما وصلت مارتينيز إلى مكتب حواس في خريف عام 2004، سألها هذا الأخير "من أنت وماذا تريدين؟". ولكنها لم تشرح له أنها كانت تبحث عن كليوباترا، مخافة أن يحسبها من المجانين الذين يعتقدون بأن من بنى الأهرام هم كائنات فضائية. "أريد أن أزور أماكن ليست مفتوحة للجمهور"، أوضحت مارتينيز، التي حصلت على إذن من حواس بزيارة مواقع في الإسكندرية والجيزة والقاهرة.
تنتصب معابد فيلة على جزيرة في وسط النيل جنوب أسوان. وشيد الفراعنة البطالمة الجزء الأكبر من هذا المجمع، الذي كان بمثابة مركز لعبادة الإلهة إيزيس. وقد تمثّلت كليوباترا بهذه الإلهة الشهيرة، تماماً كما فعلت معظم ملكات سلالتها.
وعند عودتها إلى مصر في مارس 2005، قامت مارتينيز بزيارة إلى حواس حاملة إليه نبأ تعيينها سفيرة للثقافة من قبل جمهورية الدومينيكان. فضحك حواس قائلاً إنها صغير السن جداً لتكون سفيرة. وقد أخبرته أنها زارت تابوزيريس مادنا في السنة السابقة وأنها تود العودة إليها من جديد، مدية أن هناك بقايا كنيسة قبطية في الموقع، وأن الدومينيكيين مهتمون بتاريخ المسيحية. فكان جواب حواس بالموافقة مرة أخرى. وبعد أن أنهت تصوير الوقع ومسحه، عادت لزيارة حواس، الذي استقبلها بتشنج قائلاً "لديك دقيقتين". لقد حان الوقت لإماطة اللثام عن نواياها الحقيقية، حيث أوضحت مارتينيز لحواس أنها تريد التنقيب في تابوزيريس، وقالت إن "لدي نظرية"، ثم كشفت أخيراً عن اعتقادها بأن تابوزيريس ماجنا هو المكان الذي دفنت فيه كليوباترا. فدهش حواس، قائلاً "ماذا؟!"، وهو يمسك بكرسيه من هول ماسمع. وكان فريق من علماء الآثار المجريين قد أنهى لتوه أعمال الحفر والتنقيب هناك، وكان علماء آثار فرنسيون قد حفروا حمامات رومانية على مقربة من جدران المعبد. كما كان ثمة خططاً مستقبلية لتحويل تابوزيريس ماجنا إلى منطقة جذب سياحي.
لكن مارتينيز ألحت على حواس في طلبها التنقيب في الموقع قائلة "امنحني شهرين وسأعثر على كليوباترا".

وُلدت كليوباترا السابعة في مصر، لكنها كانت تنحدر من سلالة الملوك والملكات اليونايين الذين حكموا مصر لما يقرب من 300 عام. ويعد بطالمة مقدونيا من أكثر السلالات الحاكمة في التاريح توهجاً، حيث اشتهرت ليس فقط بالثروة والحكمة، وإنما أيضاً بالصراعات الدموية ونوع من "القيم العائلية" التي لاشك سيشجبها دعاة هذه العبارة في العصر الحديث، باعتبار أن هذه "القيم" شملت زنا المحارم وقتل الإخوان أو الأخوات.
وتولى البطالمة الحكم بعد غزو مصر من قبل الإسكندر الأكبر. ففي أوج غزواته التي انطلقت في عام 332 قبل الميلاد، اجتاح الإسكندر الأكبر مصر السفلى، طارداً منها المحتلين الفرس المكروهين من قبل الرعايا المصريين، الذين رأوا فيه مبعوثاً إلهياً لتحريرهم، فجعلوه فرعوناً على مصر في عاصمتها ممفيس. وعلى امتداد البزرخ الرابط بين البحر المتوسط وبحيرة مريوط، وضع الإسكندر الأكبر مخططاً لبناء مدينة الإسكندرية، التي أصبحت فيما بعد عاصمة مصر لمايقرب من ألف سنة.
وبعد وفاة الإسكندر عام 323 قبل الميلاد، تسلم بطليموس، أحد جنرالاته الموثوقين، مقاليد الحكم في مصر. وبقرار لايخلو من عبقرية، قام بطليموس بختطاف العربة التي كانت تنقل جثمان الإسكندر إلى اليونان من أجل إبقائه في مصر حيث دفنه في ضريح بالإسكندرية. وتولى بطليموس العرش عام 304 قبل الميلاد، في الذكرى السنوية لوفاة الإسكندر؛ فقدم القرابين للآلهة المصرية واتخذ لنفسه لقباً ملكياًن وارتدى الزي الفرعوني.
ولعل أكبر إرث لسلالة البطالمة هو الإسكندرية ذاتها، بشارعها الرئيسي الذي يبلغ عرضه 32 متراً، وأروقتها المبنية بالحجر الجيري اللامع، وقصورها ومعابدها المحاذية للبحر والتي تشرف عليها منارة شاهقة، هي واحدة من عجائب الدنيا السبع في العالم القديم، على جزيرة فاروس، وسرعان ماأصبحت الإسكندرية المدينة الاكبر والأكثر تطوراً على وجه البسيطة. فقد كانت مدينة عالمية متعددة الثقافات تزخر بمزيج من المصريين، واليونانيين، واليهود، والرومان، والنوبيين، وشعوب أخرى. وهنا كانت صفوة الدراسين والمثقفين في حوض البحر المتوسط تأتي للاستزادة من العلم في مدرسة الإسكندرية القديمة (Mouseion)، وهي أول أكاديمية يتم تشييدها في العالم، وكذا في مكتبة الإسكندرية العظمى.
وهناك، قبل 18 قرناً من الثورة الكوبرنيكية، وضع أربستارخوس نظريته حول مركزية الشمس داخل النظام الشمسي، وقام إراتوستينس بحساب محيط الأرض. وفي الإسكندرية أيضاً تمت ترجمة العهد القديم لأول مرة من اللغة العبرية إلى اليونانية؛ وهناك اكتشف الشاعر سوتاديس "الفاحش" حدود الحرية الفنية عندما نظم أبياتاً نابية يسخر فيها من زواج بطليموس الثاني بشقيقته؛ فعوقب بوضعه في برميل ثقيل وإلفي به في البحر ليكون عبرة لغيره.
وكانت موهبة البطالمة في دس المكائد كبيرة جداً لايفوقها سوى ميولهم للأبهة والفخامة. فإذا صحت توصيفات الروايات التاريخية لمهرجان البطالمة الأول حوالي عام 280 قبل الميلاد، فإن تنظيم مثل ذلك الاحتفال الباذخ قد يكلف ملايين الدولارات اليوم؛ حيث كان موكب المهرجان عبارة عن عرض خيالي من الموسيقى، والبخور، وأسراب حاشدة من الحمام الأبيض، والجمال المحملة بالقرفة، وفيلة بنعال ذهبية، وثيران زُينت قرونها بالذهب. وكان ضمن الموكب تمثال بطول 5 أمتار للإله ديونيزوسوهو يسكب الخمر من قدح ذهبية.
لكن رغم كل هذا الازدهار، فإن تدهور الإمبراطورية كان محتوماً. ففي الوقت الذي اعتلت فيه كليوباترا السابعة عرش مصر في العام 51 قبل الميلاد، عن سن الـ 18 عاماً؛ كانت الإمبراطورية البطلمية آيلة للانهيار، حيث فقد السيطرة على أراضي قبرص، وقوريني (شرق ليبيا)، وأجزاء من سوريا، وما لبثت القوات الرومانية أن أقامت ثكناتها في الإسكندرية نفسها. ومع ذلك، ورغم الجفاف والمجاعة وماتلاهما من حروب أهلية في نهاية المطاف، فإن الإسكندرية كانت مدينة متوهجة مقارنة بروما. أما كليوباترا فقد كانت عازمة على إحياء إمبراطوريتها، ليس بإحباط القوة المتعاظمة للرومان ولكن من خلال وضع نفسها في خدمتهم، عبر تزويدهم بالسفن والحبوب؛ وكذا من خلال ختم تحالفها رسيماً مع الجنرال الروماني يوليوس قيصر بإنجاب ابن منه، اسمه قيصريون.
وخشية أن يمتعض رعاياها المصريون من تحالفها مع الرومان وتوددها إليهم، تبنت كليوباترا التقاليد والعادات المصرية. ويُقال إنها كانت أول فرعون بطلمي يتحمل عناء تعلم اللغة المصرية. وبينما كانت سياسة الحكام الأجانب تقضي بعبادة الآلهة المحلية واسترضاء الطبقة الدينية المتنفذة، نجد أن فكرة الحياة الآخرة لدى المصريين أسرت اهتمام البطالمة على نحو مبهر. ومن هذا الانبهار برز دين يوناني مصري هجين، تطور في نهاية المطاف إلى عقيدة سيرابيس؛ وهي تأويل يوناني لأسطورة إيزيس وأوزيريس المصرية.
وتحكي هذه الأسطورة، التي تعد واحدة من الأساطير التأسيسية للدين المصري القديم؛ كيف أن أوزيريس، الذي قتله أخوه سيث، قُطعت جثته إرباً ونُثرت في جميع أنحاء مصر. وباستخدام السلطة التي اكتسبتها إيزيس، زوجة وشقيقة أوزيريس، بفضل خداعها لإله الشمس رع وجعله يكشف لها عن اسمه السري، استطاعت إحياء شقيقها -زوجها لمدة كانت كافية لترزق من بولد، كان اسمه حورس، الذي انتقم أخيراً لمقتل والده بذبح عمه سيث.
وبحلول عهد كليوباترا، كانت عقيدة الإلهة إيزيس قد انتشرت عبر أنحاء حوض البحر المتوسط لمئات السنين. ومن أجل تحصين حكمها، سعت كليوباترا، مثلها مثل الملكات الأخريات اللاتي سبقنها، إلى ربط هويتها مع إيزيس العظيمة (وهوية مارك أنطونيو مع أوزيريس)، وكذا إلى أن تُبجل كإلهة. وكانت تأمر بتصويرها في بورتريهات وتماثيل تظهرها تماما مثل إلهة الكون، إيزيس. ومنذ عام 37 قبل الميلاد، بدأت كليوباترا حكاماً على هذه الأقاليم. وظهرت كليوباترا مرتدية ثوب الإلهة إيزيس المقدس في مهرجان أقيم في الإسكندرية احتفالا بانتصار أنطونيو على أرمينيا على 34 قبل الميلاد؛ أربع سنوات فقط قبل انتحارها ونهاية الإمبراطورية المصرية.


إن تماثل كليوباترا الشديد بإيزيس، ودورها الملكي الذي يعكس تجليات إلهة الأمومة والخصوبة والسحر العظيمة، هو ما قاد كاثلين مارتينيز إلى تابوزيريس ماجنا. فباستخدام توصيفات سترابو القديمة عن مصر، رسمت مارتينيز خريطة لعدة مواقع دفن مرجحة لإيواء قبر كليوباترا، مركزةً على 21 موقعاً مرتبطاً بأسطورة إيزيس وأوزيريس؛ وقامت بزيارة كل موقع استطاعت الوصول إليه.
وتوضح مارتينيز بالقول "إن ماجعلني استنتج أن تابوزيريس ماجنا كان مكاناً محتملاً لقبر كليوباترا الخفي هي تلك الفكرة القائلة بأن وفاة كليوباترا كانت مشهداً طقوسياً ذا أهمية دينية بالغة جرى في حفل روحاني بالغ الصرامة". وتضيف مارتينز أن "كليوباترا تفاوضت مع أوكتافيان للسماح لها بدفن مارك أنطونيو في مصر. فقد رغبت أن تُدفن معه لأنها أردات إعادة تمثيل أسطورة إزيس وأوزيريس. والمعنى الحقيقي لعقيدة الإله أوزيريس هو أنه يمنح الخلود؛ فبعد وفاتهما، سيسمح الإلهان لكيوباترا بالعيش مع أنطونيو ضمن شكل آخر من الوجود، وبذلك سوف ينعمان بحياة أبدية معاً".
وبعد دراسة أكثر من عشرة معابد، توجهت مارتينيز صوب غربي الإسكندرية على طول الطريق الساحلى لاستكشاف الأطلال التي كانت قد بدأت في الاعتقاد بأنها تمثل آخر وأفضل أمل لتحقق نظريتها. وقد أرجع العلماء تاريخ معبد تابوزيريس ماجنا إلى عصر بطليموس الثاني، على الرغم من أنه قد يكون أقدم من ذلك بكثير. وتشير لاحقة "أوزيريس" في اسم المعبد بأن الموقع كان بمثابة بقعة مقدسة، وواحداً مما لايقل عن 14 موقعاً منتشراً في جميع أنحاء مصر، حيث تفيد الأسطورة بأن جثة أوزيريس (أو أحد أطرافها) قد دفنت فيها.

بين البحر المتوسط على يمينها وبحيرة مريوط على يسارها، وقفت مارتينيز متأملة في احتمال أن كليوباترا ربما كانت سكلت نفس الطريق، لتنتقي هذا المكان الإستراتيجي كمدفهم لها لأنه كان داخل حدود الإسكندرية القديمة ولم يكن قد وقع بعد تحت سيطرة الرومان خلال تلك الأيام الأخيرة التي سبقت وفاتها. وتحكي مارتينيز قائلة "عندما رأيت هذا المكان بدأ قلبي يخفق بسرعة كبيرة". وبينما كانت تتمشى في الموقع، مررت يديها على كتل الحجر الجيري ذي اللون الأبيض والبني الفاتح في حظيرة المعبد؛ ثم قالت في نفسها: هذا هو المكان! أجل إنه مكان قبر كليوباترا!.
في عام 1935، اعتبر الرحالة البريطاني أنطونيو دي كوسون أن تابوزيريس ماجنا هي "أرقى أثر قديم بقي لنا شمالي الأهرام". لكن مايثير الدهشة فعلاً هو العمل الضئيل الذي أُنجز في الموقع. ففي عام 1905، كان عالم الآثار الإيطالي الشهير إيفاريستو بريشيا قد حفر أساسات كاتدرائية قبطية يعود تاريخها إلى القرن الرابع الميلادي في فناء المعبد الشاغر إلا من هذه الكنيسة الصغير’، واكتشف بقايل حمامات رومانية. وفي عام 1998، عثر فريق أثري من المجر بقيادة غيوزو فيريز على آثار مبنى ذي أعمدة داخل حظيرة المعبد، وخلص الفريق (على نحو خاطئ، كما اتضح فيما بعد) إلى أن هذه الآثار تعود لأحد معابد الألهة إيزيس.
وكان واضحاً عندما صدر كتاب فيرز المعنون "تابوزيريس ماجنا" في عام 2004، أن المعبد كان قد شغل ثلاثة أدوار متعاقبة_ كمعبد بطلمي، وكحصن روماني، ثم ككنيسة قبطية. لكن هل كل ذلك كل مافي القصة؟ وجد زاهي حواس نفسه يفكر ملياً في احتمال أن تمثال إيزيس البازلتي الأسود الذي استخرجه فيريز من بين أطلال تابوزيريس ماجنا قد يكون وجه كليوباترا نفسها. وفي أكتوبر 2005، بدأت الحفريات في الموقع.


في الصورة يجري انتشال النصف العلوي من تمثال جرانيتي ضخم إلى سطح خليج أبو قير، شمالي شرق الإسكندرية. ويمثل التمثال البالغ طوله كاملاً حوالي 6 أمتار الإله حابي، وهو إله فيضان النيل السنوي، الذي يخصب حقول مصر. ومن المرجح أنه كان ينتصب خارج المعبد الرئيسي في مدينة هيراكليون. وكانت تلك المدينة المتخفية من زمن بعيد، والتي يتم اكتشافها من جديد تحت الماء، مركزاً للتجارة والحج، وموقعاً دينياً طقوسياً بالنسبة لكليوباترا وغيرها من الفراعنة البطالمة.
واليوم اصبح من السهل تصور أن المنظر من صرح معبد تابوزيريس ماجنا يشبه كثيراً ما كان عليه في زمن كليوباترا - وهذا إذا أمكنك تجاهل الشريط البشع من العمارات السكنية والفنادق والمنتجعات بي الطريق الساحلية وشاطئ الرمال البيضاء الشاسع والامتداد الأزرق المتلألئ للبحر المتوسط. وذات صباح مشمس وحار في المعبد في مايو 2010، كانت كاثلين مارتينيز متدثرةً بقميص طويل الأكمام، تعتمر وشاحاً وتلبس قفازات صوفية من دون أصابع. "لسبب ما، أشعر دائماً بالبرد عندما أكون هنا"، تقول مارتينيز. لقد صارت مدة الشهرين التي طلبتها للقيام بالحفريات ثلاثة أشهر، ثم أصبحت الثلاثة أشهر خمس سنوات.
في قاعدة المبنى بوسط الموقع، أظهرت مجموعة مصففة من شظايا الأعمدة، المخطط العام المتخيل لما خلص حواس ومارتينيز إلى اعتباره معبد أوزيريس، وليس معبد إيزيس. وكان المعبد موجها على محور شرق-غرب. وفي زاوية شمالية، مع وجود إشارات باهتة لمصلى إيزيس؛ وإلى الجنوب، كانت هناك حفرة مستطيلة؛ "تلك كان البحيرة المقدسة"، تقول مارتينيز. ومن التصورات الشائعة أن المرء لايلبث أن يغرز المجرف في الأرض في أي مكان من مصر حتى يجد شيئاً مدهشاً من الماضي الغابر. وعندما بأت مارتينيز وفريق من المنقبين استكشاف الموقع عام 2005، لم يكن تركيزها منصباً بدرجة كبيرة على الإنجاز الأقصى المتمثل في العثور على قبر كليوباترا، بقدر ماكان كل اهتمامها وجهدها موجهاً إلى مجرد إيجاد مايكفي من الأدلة لدعم نظريتها عن أن تابوزيريس ماجنا قد يكون المكان الأنسب للبحث عن كليوباترا. وقد رغبت في أن تبرهن على أن المعبد كان من بين أقدس الأماكن في عصره؛ وأنه كان مخصصاً لعبادة الإلهين إيزيسس وأوزيريس؛ وأن أنفاقاً قد حُفرت تحت جدران حظيرة المعبد. وفي غضون السنة الأولى، توجت جهودها باكتشاف ممر رأسي عميق، فضلاً عن العديد من الغرف والأنفاق تحت الأرض. "ولعل أحد الأسئلة الكبرى المطروحة في هذا المقام، هو لماذا تم حفر أنفاق بهذه الضخامة"، تقول مارتينيز، مؤكدة أن "الأمر لاشك كان وراءه سبب بالغ الأهمية".
وخلال موسم 2006-2007، كشف الفريق المصري الدومينيكي المشترك النقاب عن ثلاثة مستودعات صغيرة تحت أرضية في الركن الشمالي الغربي لمعبد أوزيريس، على بعد سنتيمترات قليلة من المكان الذي كانت البعثة الاستكشافية المجرية قد توقفت فيه عن الحفر. وربطت هذه المستودعات معبد أوزيريس، بشكل لايدع مجالاً للشك، مع عهد بطليموس الرابع، الذي حكم قبل قرن ونصف من تولي كليوباترا مقاليد العرش. وفي عام 2007، عثر المنقبون على هيكل امرأة حامل كانت توفيت أثناء مخاضها، مما عزز من الرأي القائل بأن الموقع كان بالغ الأهمية بالنسبة لليونانيين الذي استقروا في مصر القديمة. وتقع عظام الجنين الدقيقة بين وركي الهيكل العظمي. وكانت فك المرأة مفتوحاً مما يوحي بأنها كانت تتألم، فيما كانت يدها اليمنى تمسك تمثالاً صغيراً من الرخام الأبيض للإسكندر الأكبر. "إنها لغز محير"، تقول مارتينيز، التي حصلت على تابوت بُني خصيصاً ليحوي بقايا الأم.
تستحضر الكنوز المستخرجة من تحت أنقاض مدينة كانوب الغارقة - مثل المعلقات، والخرز، والمشابك، والزخرفات مروحية الشكل وغيرها من قطع الزينة الأخرى- أساطير عن أسلوب حياة كليوباترا الباذخ. وقد شكلت هذه الثروات عاملاً محفزاً للغزو الروماني على مصر، مامكن من الوصول إلى مناجم الذهب في النوبة والسيطرة على القوافل التي تجلب وسائل الرفاهية الأخرى من أقصى الجنوب. ورغم أن كانوب كانت مشهورة باحتفالاتها الصاخبة، إلا أنها كانت أيضاً محضناً لمعبد الإله سيرابيس، النسخة البطلمية لأوزيريس، إله العالم الآخر. وقد استمر هذا المظهر الروحي حتى العصر البيزنطي، حينما كان الحجاج المسيحيون يقدمون أمتعتهم الثمينة لشكر الرب على شفائهم.
وفي غضون ست سنوات، أضحت تابوزيريس ماجنا أحد أنشط المواقع الأثرية في مصر. فقد تم اكتشاف أكثر من ألف لقية أثرية، اعتُبرت 200 منها مهمة؛ وتشمل منتجات فخارية، وقطع نقدية، وحلي ذهبية، ورؤوس تماثيل مهشمة (يُعتقد أن المسيحيين الأوائل قاموا بتحطيمها). ومن بين الاكتشافات المهمة كذلك مقبرة كبيرة خارج جدارن المعبد، توحي بأن رعايا أحد الملوك رغبوا في أن يُدفنوا بجوار رفات ملكهم.
ومع كل ذلك، فإن قبر كليوباترا مايزال بعيد المنال، وكأنه سراب مشوق خادع؛ وماتزال النظرية بشأن هوية المدفونين في تابوزيريس ماجنا تستند إلى تكهنات منطقية أكثر منها إلى حقائق ملموسة. ويبقى السؤال: ألا يمكن أن تكون فترة حكم كليوباترا قد انصرمت بسرعة فائقة جداً قبل أن تتمكن أصلاً من بناء تلك المقبرة الخفية؟ إنها نظرية غير قابلة للتصديق، رغم أن المشوار ما يزال طويلاً وشاقاً للقول بصحة نظرية مارتينيز من عدمها.
ويشير منتقدو نظرية مارتينيز إلى أنه من النادر جداً في علم الآثار أن يعلن شخص ما أنه سيجد شيئاً ما ومن ثم يعثر عليه فعلاً. ويقول دوان دبليو. رولار، وهو باحث بارز في تاريخ كليوباترا، "ليس ثمة من دليل على أن كليوباترا حاولت إخفاء قبرها، أو أنها أرادت فعل ذلك". ويستطرد رولر بالقول "لقد كان من الصعب إخفاء قبرها على أوكتافيان، وهو من تكفل بدفنها؛ فكل الدلائل تشير إلى أنها دُفنت مع أسلافها. كما أن الآثار المرتبطة بها في تابوزيريس ماجنا لا معنى لها لأنه يمكن العثور على أمثالها في أماكن عدة داخل مصر".
"إنني أتفق بأن أوكتافيان كان يعرف مكان دفن كليوباترا وأنه أذن بدفنها"، تقول مارتينيز، مضيفة "لكن ما أعتقده - وهذه مجرد نظرية - هو أنه بعد انتهاء عملية التحنيط، قام الكهنة في تابوزيريس ماجنا بدفن جثماني كليوباترا ومارك أنطونيو في مكان مغاير من دون أخذ موافقة الرومان؛ مكان خفي تحت فناء المعبد".
وإذا حدث وتم العثور على قبر كليوباترا، فإن إحساس الأثريين بالنشوة والإثارة لن يضاهيه سوى اكتشاف هاورد كارتر لقبر المللك توت عام 1922. ولكن هل سيؤدي اكتشاف قبرها، برفاته أو من دونه، إلى تعميق فهمنا لأخر الفراعنة المصريين؟
فمن ناحية، يمكن القول إن اكتشافاً من هذا الحجم لايمكنه إلا أن يعمق فهمنا؛ فخلال المئة سنة الأخيرة، كانت الإضافة الجديدة الوحيدة إلى السجل الأثري عن كليوباترا؛ وهي عبارة عن ورقة بردي تمنح بموجبها إعفاء ضريبياً لمواطن روماني مقيم في مصر في عام 33 قبل الميلاد.
ومن ناحية أخرى، فإن اكتشاف قبر كليوباترا قد ينتقص مما سماه شكسبير "تنوعها اللامتناهي". فتمثُل كليوباترا في عالم الأسطورة يطلق لها العنان لتتجلى في صور وشخصيات مختلفة في أزمان مختلفة، وهذا ربما منبع حيويتها وشهرتها المتواصلة حتى بعد زمن طويل من وفاتها. وليس ثمة من امرأة أخرى من العالم القديم تفوقها تنوعاً في الغموض وحداثة في التناقض.
حان وقت الغداء في موقع الحفر، فراح العمال لتناول طعامهم في الظل. وكنا نجلس فوق قمة صرح المعبد عند وهج الظهيرة، محدقين في البحر من حولنا. وكأ، الآلهة المصرية القديمة كانت تحوم في الجوار؛ الإله رع، الذي كان يتحكم في الأرض، والسماء، والعالم السفلي؛ الإلهة إيزيس التي أنقذت أوزيريس باحتيالها على رع حتى كشف عن اسمه السري.
تمثال حجري من كانوب، أكبر بقليل من الحجم الطبيعي،
يعود تاريخه إلى القرن الثالث قبل الميلاد؛ يرتدي ثوباً
مميزاً للملكات البطلميات وبالنظر لتمثل تلك النساء
بإيزيس، فإن العقدة الموجودة في النسيج تدعى غالباً
عقدة إيزيس، وبالنسبة للبطالمة، فإن العلاقة بين إيزيس
وشقيقها -زوجها أوزيريس، كانت نموذجاً ومسوغاً
للزيجات الملكية. وقد استمرت عقيدة إيزيس على مدى
500 عام بعد وفاة الملكة كليوباترا، إدى مريداتها
المخلصات.


لقد كان البحث عن كليوباترا مكلفاً جداً بالنسبة لمارتينيز، فقد تخلت عن ممارسة المحاماة في سانتو دومينغو وصرف الكثير من مدخراتها في بحثها هذا. وانتقلت للعيش في شقة بالإسكندرية، حيث بدأت تتعلم اللغة العربية. ولكن ليس من السهل عليها العيش بعيداً عن عائلتها وأصدقائها. وخلال الثورة التي شهدتها مصر مطلع هذا العام، تعرضت لها مجموعة من الأشخاص العدوانيين بينما كانت تعمل في موقع التنقيب. أما الآن فقد تم وقف العمل مؤقتاً في الموقع. وتأمل مارتينيز استئناف الحفر في الخريف المقبل.
"أعتقد أننا سوف نجد ما نبحث عنه"، تقول كاثلين مارتينيز، موضحة أن "الفرق الآن يكمن في أننا نحفر في الأرض، وليس في الكتب".




المصدر/ مجلة ناشيونال جيوغرافيك العربية - يوليو 2011