المكونات السرية (الصينية) لكل شيء (تقريباً)

من منّا لايحب الهواتف الذكية والمركَبات الهجينة والثقابات الللاسلكية، لكن هل تعلمون أن جميع هذه الأجهزة مصنوع من مقدار ضئيل من أتربة نادرة، عبارة عن عناصر فريدة لايزال جلها يأتي من الصين حتى لحظتنا هذه؟
لعل معظمنا يجد صعوبة في تحديد موقع منغوليا الداخلية وجيانغشي وغوانغدونغ على الخريطة، غير أن مئات الأجهزة عالية التقنية التي تعتمد عليها في حياتنا، بما فيها الهواتف الجوالة والحواسيب المحمولة، لايمكن تصور وجودها لولا مجموعة غامضة من العناصر التي يتم تعدينها، بصورة غير قانونية في بعض الأحيان، في هذه المدن الثلاث وغيرها من المناطق في الصين.

السماريوم، واحد من الأتربة السبعة عشر النادرة (والمفيدة على نطاق واسع)، ويساعد في تحويل الصوت إلى كهرباء في ملتقطات الصوت المغنطيسية للقيثارات الكهربائية. كما يوجد في قضبان التحكم لبعض المفاعلات النووية.


تم اكتشاف الأتربة النادرة، كما يصُطلح عليها، ابتداء من أواخر القرن الـ 18 باعتبارها معادن مؤكسدة، ومنها أخذت اسم "الأتربة". وهي معادن بالفعل، كما أنها ليست نادرة في حقيقة الأمر، بل هي متناثرة فحسب؛ فإذا مافحصت حفنة من التراب الموجود في الفناء الخلفي لبيتك، قد تجد على الأرجح أنها تحوي نزرا يسيرا من هذه العناصر، ربما لايتجاوز بضعة أجزاء لكل مليون طن. ويعتبر أندر هذه الأتربة النادرة أكثر وفرة من الذهب بما يقرب من 200 مرة، بيد أن كمياتها الكبيرة والمركزة بالقدر الذي يجعلها قابلة للتعدين، نادرة حقاً.

إن قائمة الأشياء التي تحتوي على الأتربة النادرة تكاد تكون غير محدودة؛ فالمغنطيسات المصنوعة منها أقوى بكثير من المغنطيسات التقليدية ووزنها أقل، مايشكل أحد الأسباب التي جعلت العديد من الأجهزة الإلكترونية تصبح أصغر فأصغر. كما أن الأتربة النادرة ضرورة لمجموعة من الآلات الخضراء (الصديقة للبيئة)، بما في ذلك السيارات الهجينة وتوربينات الرياح. ومن ذلك أن بطارية سيارة تويوتا بريوس تحتوي على حوالي 10 كيلوجرامات من اللنثانيوم _ أحد عناصر الأتربة النادرة – والمغناطيس في توربين رياح كبير قد يحتوي على 260 كليوغراماً أو أكثر من النيوديميوم. كما أن الجيش الأمريكي يحتاج للأتربة النادرة لصنع منظار الرؤية الليلية وصواريخ كروز، وغيرها من الأسلحة.

"إنها تحيط بك من كل نحو وصوب"، يقول كارل شنايدر، وهو عالم معادن رئيسي لدى مختبر أميس التابع لوزارة الطاقة الأميركية ومقرة في ولاية أيوا. ويدرس شنايدر عناصر الأتربة النادرة منذ أكثر من 50 عاماً. "الفوسفور في جهاز التلفزيون الخاص بك، والمسؤول عن اللون الأحمر، مصدره عنصر يسمى اليوروبيوم. والمحول الحفّاز في نظام العادم بسيارتك يحتوي على السيريوم واللنثانيوم. وهذه العناصر غير ظاهرة للعيان إلا إذا كنت تعرف عنها، ولذلك لايهتم معظم الناس لوجودها طالما أن في استطاعتهم الحصول عليها". أما اليوم فثمة قلق يساور الكثير من الناس.


وكانت الصين، التي تلبي 97 بالمئةمن احتياجات العالم من الأتربة النادرة، هزت الأسواق العالمية في خريف عام 2010 عندما أوقفت شحناتها إلى اليابان لمدة شهر خلال نزاع دبلوماسي. وعلى مدى العقد المقبل من المتوقع أن تحد الصين بشطل مطرد من صادراتها من الأتربة النادرة بغرض حماية الإمدادات الموجهة لصناعاتها المتنامية، التي تستهلك نحو 60 بالمئة من الأتربة النادرة التي يتم إنتاجها في البلد. وهكذا أدت المخاوف من نقص الإمدادات في المستقبل إلى ارتفاع الأسعار بشكل كبير، حيث وصل الآن سعر الديسبروسيوم، المستخدم في القرص الصلب لجهاز الحاسوب، إلى 467 دولاراً أميركياً للكيلوغرام الواد، مقابل 14.93 دولار فقط قبل ثماني سنوات. وخلال شهرين فحسب في الصيف الماضي، قفزت أسعار السيريوم بأكثر من 450 بالمئة. وعلى الأرجح سوف يتجاوز الطلب العرض على المستوى العالمي قبل نهاية عام 2011، على حد قول مارك أيه. سميث، المدير التنفيذي لموليكور، وهي شركة أميركية أعادت فتح منجم للأتربة النادرة في ماونتين باس، بولاية كاليفورنيا العام الماضي. ويضيف سميث "نحن نشهد اليوم نقصاً في إمدادات الأتربة النادرة، وهو نقص حاد جداً؛ فخلال هذا العام سوف يتراوح الطلب عليها من 55 ألف إلى 60 الف طن خارج الصين، في حين أن جميع التوقعات في الوقت الراهن تشير إلى أن الصين سوف تصدر حوالي 24 ألف طن فقط. لكن الصناعة العالمية ستبقى على قيد الحياة بفضل تراكمات الأتربة النادرة التي تدخرها المؤسسات الصناعية والحكومية على حد سواء، ولكنني أعتقد أن عام 2011 سيكون عاماً حاسماً للغاية فيما يتعلق بالعرض والطلب".

فأما الطلب فإنه لايبدي أي مؤشرات على تراجعه، إذ تفيد التوقعات في عام 2015 أن استهلاك الصناعات العالمية من الأتربة النادرة يُقدر بحوالي 185 ألف طن، أي أكثر بنسبة 50 بالمئة من إجمالي عام 2010. ومع حرص الصين الشديد على احتياطياتها، أنّى لبقية العالم الحصول على هذه العناصر التي أضحت في غاية الأهمية بالنسبة للتكنولوجيا الحديثة؟ ورغم أن الصين تحتكر تعدين الأتربة النادرة في الوقت الراهن، فإن دولا أخرى لديها احتياطياتها من هذه المواد أيضاً. وهكذا تمتلك الصين 48 بالمئة من احتياطيات العالم، والولايات المتحدة 13 بالمئة، فيما تمتلك روسيا واستراليا وكندا احتياطيات مهمة بدورها. وحتى ثمانينيات القرن العشرين، كانت الولايات المتحدة تتصدر دول العالم في إنتاج الأتربة النادرة، ويعود الفضل في ذلك بدرجة كبيرة إلى منجم ماونتين باس. يقول سميث "في وقت من الأوقات كان ماونتين باس ينتج 20 ألف طن سنويا عندما كان الطلب العالمي 30 ألف طن، وبذكل فقد كنا نلبي أكثر من 60 بالمئة من الطلب العالمي".

لكن هيمنة الولايات المتحدة على إنتاج الأتربة النادرة توقفت في منتصف ثمانينيات القرن العشرين، وسلّمت المشعل للصين، التي كانت قد انخرطت لعقود من الزمان في تطوير التكنولوجيا لأغراض عزل الأتربة النادرة (وهي عملية ليست باليسيرة لأن هذه الأتربة متشابهة جداً من الناحية الكيميائية). وهكذا اقتحمت الصين السوق العالمية بكل قوة، حيث تفوقت على جميع منافسيها من خلال طرح أتربتها النادرة بأسعار أدنى منهم جميعاً بفضل الدعم الحكومي والعمالة الرخيصة وتراخي – أو انعدام – النتظيمات البيئية. وتم إغلاق منجم ماونتين باس في عام 2002، فأصبحت باوتو، وهي مدينة في منغوليا الداخلية (منطقة حكم ذاتي في الصين)، عاصمة العالم الجديدة للأتربة النادرة. وتحمل مناجم باوتو في بطنها حوالي 80 بالمئة من الأتربة النادرة في الصين، يقول تشين زانهيغ، مدير القسم الأكاديمي للجمعية الصينية للأتربة النادرة، ومقرها بكين. غير أن باوتو دفعت ثمناً باهظاً لتفوقها هذا. فقد تبين أن بعضاً من أكثر المنتجات رفقاً بالبيئة، والمنتجات فائقة التكنولوجيا، هي في واقع الأمر نتاج عمليات قذرة وملوّثة للغاية، فمناجم الأتربة النادرة غالباً ماتحتوي هي أيضاً على عناصر مشعة، مثل اليورانيوم والثوريوم. وهناك أخبار عن ترحيل قرويين يسكنون بجوار مدينة باوتو لأن مياههم ومحاصيلهم تعرضت للتلوث جراء نفايات التعدين. وكل عام تنتج المناجم القريبة من باوتو نحو 10 ملايين طن من المياه العادمة، يحتوي الكثير مها إما على درجة حموضة عالية للغاية أو مواد مشعة؛ وهي مياه غير مُعالجة بالكامل تقريباً. ويؤكد تشين ان الحكومة الصينية تبذل جهداً لتنظيف هذه الصناعة، حيث كتب في رسالة بالبريد الإلكتروني، "لقد وضعت الحكومة منذ مدة قوانين صارمة لحماية البيئة والتخلص من المعدات والتقنيات والمنتجات المتخلفة". وأضاف تشين "سيتم إغلاق تلك المصانع غير القادرة على حماية البيئة أو دمجها مع شركات أكبر".

وقد تكون الحكومة الصينية في نهاية الأمر قادرة على تنظيم وتقنين عمليات التعدين الضخمة في مناجم الأتربة النادرة حول مدينة باوتو. لكن سوف يكون من الصعب مراقبة بعض المناجم الصغيرة في جنوب الصين؛ والسبب أنها تعمل خارج نطاق القانون، في المقام الأول. وتدير عصابات إجرامية العشرات من مناجم الأتربة النادرة شديدة الضرر بالبيئة – والمدرة للربح – في كل من مقاطعتي جيانغشي وغوانغدونغ. وذكرت وكالة الأنباء الرسمية الصينية، جينهوا، أن المجرمين تمكنوا من تهريب 20 ألف طن من الأتربة النادرة خارج البلاد عام 2008، أي مايقرب ثلث مجموع صادرات الصين من الأتربة النادرة في ذلك العام. وإذا كنت تملك هاتفاً ذكياً أو جهاز تلفزيون بشاشة مسطحة، فقد يحتوي كل منهما على أتربة نادرة مهربة من جنوب الصين. "إن الناس لايعون حجم الفساد المستشري على نحو تام في هذا القطاع من الصناعة في الصين، حيث يقوم المسؤولون المحليون، التابعو للحزب الشيوعي الحاكم، المدير التنفيذي لشركة باسيفيك أورز ميتالز أند كيميكلز، وهي شركة تجارية في قطاع المعادن والكيميائيات، مقرها في هونغ كونغ، ويتحدث كراولي انطلاقاً من تجربة شخصية، فقد قُتل أحد زملائه الشرطة في شيء، حيث فر القتلة وعادوا إلى التراب الرئيسي للصين"، حيث كراولي.


واليوم يسعى العالم جاهداً للعثور على مصادر أخرى من إمدادات الأتربة النادرة؛ ولعل تطوير مناجم الأتربة النادرة في الولايات المتحدة وأستراليا وروسيا وغيرها من البلدان، من شأنه أن يؤدي في نهاية المطاف إلى الحد من أنشطة التهريب في هذا القطاع. وتعتزم شركة موليكور هذا العام إنتاج 3000 إلى 5000 طن من الأتربة النادرة من مخزون خام مكدس في منجم ماونتين باس الذي تمتلكه، ولديها خطط توسعية كبيرة. "يبلغ الطلب الأميركي حالياً مابين 15000 و 18000 طن سنوياً"، يقول سميث، مضيفاً "من حيث المبدأ، يمكن أن تصبح الولايات المتحدة في نهاية المطاف مكتفية ذاتياً في حيث الأتربة النادرة". ووفقاً لتشين، فإن هيمنة الصين الحالية على سوق الأتربة النادرة لايخدم مصالحها على المدى البعيد، لأن "من الواضح أن هذا الوضع غير مستدام، ليس فقط بالنسبة لقطاع صناعة الأتربة النادرة في الصين، وإنما أيضاً لصناعة التكنولوجيا الفائقة في العالم".

مقتطفات:
  • الرؤية العسكرية: الجيش الأميركي يعتمد بدوره على المناجم الصينية، فمنظار الرؤية الليلية يتطلب اللانثانيوم والجادولينيوم، والإيتريوم. مغناطيسات السماريوم، التي يمكن أن تتحمل الحرارة الشديدة، تساعد في التحكم في طائرات بريداتور التي تعمل من دون طيار، وصواريخ توماهوك الجوالة.
  • المسح الطبي: يعمل الجادولينيوم ايضاً بمثابة عامل تباين في التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI)، مايساعد الجراحين في التمييز بين الأنسجة المريضة والسليمة.
  • الآلات الصديقة للبيئة: لايمكن تصور وجود عناصر الأتربة النادرة؛ للنثانيوم لبطارياتها، ومغناطيسات النيوديميوم لمحركاتها الكهربائية. كما يمكن أن تحتوي توربينات الرياح على مئات الكيلوغرامات من النيوديميوم؛ أما المصابيح الفلورية المدمجة، فتحتوي على كميات أقل بكثير من الإيتريوم والتيربيوم.
  • أشياء أخرى كثيرة... من بينها حماية العينين والمشروبات من الأشعة فوق البنفسجية، حيث يضفي كل من البراسيوديميوم اللون المظلل على النظارات الشمسية؛ ويعمل السيريوم في زجاجة قنينة المشروبات الكحولية على تعزيز امتصاصة للأشعة فوق البنفسجية. كما تعتمد بعض الأدوات الكهربائية على مغنطيسات النيوديميوم أو الديسبروسيوم لتقليص عدد المحركات التي تشغلها.
  • العناصر الأساسية السبعة عشر: الأتربة النادرة هي 17 معدناً تتجمع معاً في الجدول الدوري - 15 منها، من اللنثانيوم إلى اللوتيتيوم، تشكل سلسلة متعاقبة - وتركمات في الخامات أيضاً. وهذه الأتربة طيّعة، ومغناطيسية، وتفاعلية، وانكسارية؛ وهي مكونات صغير لأشياء كبيرة وكثيرة.
  • من ينتج الأتربة النادرة: عندما انطلق تعدين الأتربة النادرة بقوة في الصين خلال ثمانينيات القرن العشرين، لم تعد الولايات المتحدة وغيرها من الدول المنتجة قادرة على المنافسة، وصارت السوق العالمية تعتمد اليوم على الصين، التي تستخدم معظم إنتاجها من هذه المعادن لتغذية مصانعها المزدهرة. ومع ذلك فإن دولا اخرى لاتزال تحتفظ باحتياطيات كبيرة من الأتربة النادرة القابلة للتعدين.
  • نطاق الاستخدام والأسعار: اللنثانيوم والسيريوم، وهما عاملان محفّزان في عملية اشتقاق البنزين من النفط، يتواجدان بوفرة وسعر رخيص. أما اللوتيتيوم، أحد أندر واغلى الأتربة النادرة، فإنه يستخد في ماسح التّصوير المقطعي بالانبعاث البوزتيروني (PET Scanner)؛ ويوجو الإربيوم منخفض التكلفة في الألياف البصرية.

المصدر: مجلة ناشيونال جيوغرافيك العربية - عدد يونيو 2011